مكثَ على غيرِ عادةٍ لمْ يندبْ حظهُ ويلعنُ القدرُ , لمْ يسبْ الآخرينَ بلْ كانَ مبتسماً أفرطَ في الشرابِ , نزعُ سترتهِ ورماها فوقَ الكرسيِ , وراحَ يتنقلُ في حجرتهِ المتواضعةِ يضحكُ ويضحكُ حتى علتْ ضحكاتهِ وصارَ لها صوتاً بينَ جدرانِ الحجرةِ العتيقةِ , ألقى جسدهُ على الفراشِ وأشعلَ سيجارةً وبدأَ يدندنُ ببعضِ الأغانْ الهابطةَ السائدةِ تلكَ الأيامِ.. يصرخَ فيمزقُ الصمتُ , والأضواءُ الحمراءُ تكسبُ "جوا رخيصاً" كالخماراتْ.. الدخانُ يتسربُ إلى ملابسهِ الرطبةِ توقفَ عنْ الغناءِ وهمسَ إلى نفسهِ :
- قدْ ضحكتْ كثيراً وتحدثتْ كثيراً ولمْ يبالِ بكلماتي أحدٌ .
صمتُ برهةٍ ثمَ أضافَ :
- لكنْ منْ الذي يصغي إلى ويسمعُ كلماتي ربما يكونُ مخلوقٌ آخرُ منْ عالمٍ آخرَ؟
أشعلَ سيجارةً أخرى وراحَ يدندنُ بنفسِ الأغانِ الهابطةَ التافهةِ .
وضع رأسهِ على كتفهِ مغمضاً عينيهِ.. فجأةُ سمعَ صوتاً ودوياً كبيراً ربما انشقتْ جدرانُ الحجرةِ لهزاتهِ وصيحاتهَ.. فظهرتْ الجدرانُ ذاتُ الطلاءِ المقشورِ يكشفُ خلفهُ عنْ الأسمنتِ الرطبِ, واِنخلعَ قلبهِ وسطَ أضلعهِ المفككةِ سقطتْ السيجارةُ منْ يدهِ التي ترتجفُ كمنَ صعقهُ تيارٌ كهربائيٌ , راحَ يجمعُ أشلاءَ جسدهِ الذي تفككَ وتمتمَ بصوتٍ محشرجٍ :
- وماذا أنتَ فاعلٌ معي ؟
علتْ ضحكاتِ الجنيِ حتى كادَ سقفُ الحجرةِ يهوى على الأرضِ قائلاً :
- كنتَ ماراً منْ هنا , فسمعتكَ تطلب منْ تتحدثُ معهُ ويتحدثُ معكَ لا تخف يا حسينْ.. أنا هنا لمساعدتكَ بشرطً !!
لمْ يتوقعْ قطُ أنَ الجنيَ يفوقُ هذا الخيالِ وينادي باسمهِ دونَ أنْ يبوحَ بهِ أمامهُ , لمْ يكنْ في الحسبانِ أنْ يصغيَ لشروطِ وأوامرِ جنيٍ ليسَ منْ جنسهِ ولا عالمهُ.. نظر للجنيِ وهوَ يثبتُ أجزاءَ جسدهِ الذي يرتجفُ :
- وما هيَ شروطكَ إذن ؟
تمزقتْ خيوطُ الصمتِ وراحَ الليلُ يخيمُ بستارهِ الحزينِ ليخفيَ ما تبقى منْ دهشةٍ , وخوف باتَ بينَ جسدِ "حسينْ أفنديِ" وهوَ يرقبهُ عنْ كثبٍ , بدأَ يتأملُ هذا المخلوقِ الضخمِ بجسدهِ الثقيلِ يجثو كجبلِ منْ الثلجِ , ويسبحَ في بركةٍ منْ الدموعِ.. طالتْ نظراتِ "حسينْ أفنديِ" وهوَ يرقبهُ عنْ كثبٍ , اقتربَ منهُ شيئاً فشيئاً حتى تلامسا ربتْ على كاهلهِ العريضِ وقالَ :
- أملُ علي شروطكَ ربما أقبلها ما دامتْ في استطاعةِ البشرِ مثلي !
راحَ الجنيُ يضربُ رأسهُ بالأرضِ ويندبُ حظهُ كمنَ ارتكبَ ذنبا لا يغتفرُ.. زادَ في بكائهِ وصراخهِ :
- إني أحببتُ أنسيةٌ منْ البشرِ فأعلنوا عصياني وطردي إذْ لمْ أتركها !!
ابتسمَ "حسينْ أفندي" وأخذِ شهيقاً طويلاً وهمسَ في أذنهِ :
- وهلْ هيَ تحبكُ ؟
- لستَ أدري لكنها أعجبتني فانشغلتْ بها.
توارى "حسينْ أفندي" عنهُ خطوةُ أوْ اثنتينِ حتى اقتربَ منْ زاويةِ الحجرةِ وقالَ :
- وماذا أفعلُ لكَ ؟
- أريدكُ أنْ تساعدنيَ وتقفُ بجواري.
ضحكُ "حسينْ أفنديِ" وزادَ منْ ضحكاتهِ حتى صارَ لها صوتاً يهزُ جدرانَ المنزلِ كما اهتزَ لها جسدُ الجنيِ الذي ما زالَ متشبثٌ بالأرضِ:
- شبيكْ لبيكَ.. "حسينْ أفندي" بينَ يديكَ.
منْ المجموعةِ القصصيةِ "الحلمَ الضائعَ"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق