كاميرا السماء
منصهرٌ في قضيتهِ، بعيدٌ عن الأضواءِ، كالجبلِ في تفاصيلهِ ومفاصلهِ، له غايتانِ من الصمتِ الأولى: التغاضي عن تفاهاتِ أصدقائهِ، والثانية: حينما لا يرى جدوى من الكلامِ.
يلتقطُ الصورَ وينسجُها في الذاكرةِ، ولكنَّ كاميرا السماءِ تبدعُ أكثرَ منهُ بملايينِ المراتِ في تصفيةِ الحساباتِ، زارَ أحدَهم وقالَ: إنَّكَ لم تدركْ النعمَ إلا بعدَ أنْ زالتْ.
وقالَ لآخرٍ: لمَ تتذمرْ على قلةِ ما تملكُ؟ أحلامُكَ لا يتسعُ لها حتى حضنُ الجمعةِ! وقالَ لثالثٍ: لقد تجاهلتُم رسائلي عمداً، فسرقَ العمرُ أجملَ أيامِ حياتِكم.
يتقلبُ على وجههِ في الليلِ، ويحاولُ أنْ يجدَّ الوجهَ الصحيحَ لليومِ التالي، ولأنَّهُ يعشقُ الكتاباتِ الحزينةِ، يرى مجملَ حقوقِه بأنْ يعشقَ اليأسَ، فسيمفونيةُ الشيطانِ كانَتْ تدغدغُ أوراقَهُ، مع محاولاتِهِ لترتيبِها، خيباتٌ كسرَتْ ظهرَهُ لكنَّها صنعَتْ منهُ رجلاً.
أسوأ ما يتحدثُ عنهُ، أنَّ كتاباتِهُ لا يوجدُ فيها نبرةُ ألمٍ أو لمعةُ أملٍ، فكلماتُهُ بحرٌ مكتوبٌ لمقصودٍ لم ولن يُفهَمَ، لأنَّهُ يقفُ على قلبِهِ محاولاً عناقَ السماءِ لكنْ دونَ جدوى، يقرعُ أبوابَ الكلماتِ كلَّ يومٍ، ويصافحُ الحروفَ لأنَّها تذكرهُ بالحلمِ السعيدِ، والكوخِ البعيدِ، والسريرِ الوحيدِ.
المعانيَ أوشكَتْ على حافةِ السقوطِ، بمجردِ أنْ نادتْهُ زوجتُه قائلةً: إبنتاكَ تريدانِ توديعَكَ قبلَ ذهابهِما الى المدرسةِ، خذلتْهُ النارُ والتجاعيدُ التي توقدَتْ تحتَ الخاصرةِ، معلناً أنَّ أصدقاءَهُ الذينَ نصحَهم، كانوا دروساً وعبراً لهُ في حياتهِ الطويلةِ العريضةِ.
أيقظَهُ صياحُ بائعِ الصحفِ الذي ناداهُ: نبوءةٌ متأخرةٌ وشذراتٌ من حزنِكَ المنفي يوماً ما ستتحققُ، فتحَتْ كفوفُ الملائكةِ أبوابَ بيتِه المتواضعِ، لتبوحَ بأسرارِ سماءٍ كانَ يحلمُ بها، وإذا بساعي البريدِ يحضر، ُويحملُ طرداً لهُ، فتحَ المظروفَ فإذا هي كاميرا رائعةُ، حملَتْ صوراً لعشقٍ طُويِتْ أوراقُ جنونِهِ في ذاكرةِ الأيامِ، فقد كانَتْ حبيبُتهُ تعيدُ لهُ صياغةَ العالمِ، وتنسيهِ الماضي، لقد وصفَ نفسهُ كمدينةٍ مسكونةٍ بالأرقِ والعصافيِر، وخرجَ منها بأمنياتٍ لا تنتهي، كانَ يشاهدُها بطريقةٍ مميزةٍ، وكأنَّهُ يستريحُ بالنظرِ اليها من تعبٍ ما، رفعَ نظرَهُ مخاطباً السماءَ: أيتُّها الكاميرا ما أروعكِ وأعظمكِ!!!
بيادقُ الشكِ الجبانِ بدأَتْ تترنحُ في ستراتِ أصدقائهِ الثلاثِة، لكنَّهم فشلوا في معرفةِ مَنْ هي؟ حتماً إنَّها إمرأةُ إحتضنَها قبرٌ، رقدَتْ بهدوءٍ في حضنِ الأرضِ، ووقفَتْ كالوطنِ فوقَ مقبرةِ الغرباءِ!
أمل الياسري/ العراق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق