الأربعاء، 4 مايو 2022

من رواية "سيمفونية الأقدار" / ربيع دهام)

 

آدم والشجرة:  


تشد الموسيقى الملكيّة، المنبعثة من التلفاز، شحمة أذنه.

تكاد تقتلعها. تأمره : " أنصت. هيا قِف".

يرمقه العاهِلْ، الثنائي البُعدْ،  بنظرة متعالية متعجرفة جافة: 

" من تظن نفسك أيتها الحشرة لكي تتجاهل مناسبة عظيمة 

كهذه؟".

لكن آدم، بجسده المتسمّر أمام التلفاز، كانت روحه ترفرف 

في مكانٍ آخر.

في آخر كرم الزيتونِ، خلف بيته البسيط الصغير.

حيث تكمن الشجرة التي يحب.

شجرة اختارها  قلبُه لتكون ملكة الشجرات.

ولحظة كانت هولندا تحتفل، من خلف الشاشة، بصعود 

عاهلها الجديد إلى عرش دولتها، كان ذاك الرجل الأسمر 

يحتفل بتتويج تلك الشجرة  ملكةً على عرش قلبه.

وبينما كان الحضور هناك يتألف من رؤساء وملوك دول، 

ووزراء ونواب، وأغنياء وأثرياء، وكبار القوم والحكماء،

كان الحضور، في مخيّلته، خليطاً جميلاً من الطيور والبلابل، 

والورود والشتلات، والحصى الممزوجة بحبّات التراب.

وبينما تسمّر الشعب أمام شاشات التلفزة ليشاهد الإحتفال، 

كانت قطرات الندى تجلس على الأغصان وتراقب.

 وبينما كانت عيون الكاميرات وتكتكة العدسات تحدّق بالملك 

المتوّج هنا، كانت عيون الله الجميلة، وروح الله الرحبة  

هناك. 

تنظر إلى الشجرة بفرح الطفل، وبحنان الأم، وتبتسم.

شجرةٌ اعتلت عرش الحب . 

لو  سألوه: " لما هذه الشجرة بالذات؟ "، لما استطاع الإجابة.

جذعها. أغصانها. أوراقها. زيتونها. ظلالها. ترابها. 


كل شيء فيها يشبه رفيقاتها الأخريات.

لكن ما سرّ تلك النَفْس البشرية؟  

ما سرّ تلك العاطفة الإنسانية؟

وشؤون وشجون القلب؟ 

وكيف تجعلك، من بين كل الصبايا، معجباً بصبية.

ومن بين كل الورود، تحنُّ لوردة.

ومن بين كل العطور، يستهويك عطرٌ.

ومن بين جميع القصائد، تغريك قصيدة.

ومن بين خليط الألحان، يأسرك لحنٌ.

 ومن بين كثرة المدن، تحتلك مدينة.

ومن بين جميع الشوارع والأزقة، ترنو نفسك لشارع.

ومن بين مختلف أساطير التاريخ، تعشق أسطورة.

أسطورةٌ تسكن فيك. تسكنها.

تقطن بين ضلوعك. تولم لقلبك. تقيم مأدبة غداءٍ لخلاياك 

الجائعة.

وتركضُ خلاياك لاهثةً لتغرف من  ألغازها المثيرة

وأبطالها الكثيرة.

وما هذا الترتيب والتدبير الخفي بين الحب وبين الوقت؟

علاقة غريبة بحق. 

الحبّ هو قاتل الزمن الأكثر احترافـاً.

متى استوطن خلاياك فرَّ من نواتِها الوقتُ. 

وها هو آدم، يقتل الوقت بشجرته المفضّلة.

 يداه غصنان إضافييان يتفرّعان من جذعها.

أصابعه لجذورها جذورٌ جديدة.

كلّما لاحقته نيران الحياةِ، التجأ إليها والتحف ظلالَها.

وكلما داهم قلبه الصقيع، أدفأ صدره بأوراقها.

ترى، أتحبّه الشجرة مثلما يحبها؟  أتنتظره مثلما ينتظرها؟

أمشتاقة إليه بقدر شوقه إليها؟

أتبوح له بفرحها وبحزنها الصامت كما يفعل هو؟


يقالُ أن الوردة، لكي تستجلب الفراشة نحوها، تزيد من كمية

رحيقها المنبعث. 

وها هو مثل الوردة، يفيض بعطره كلما فكّر بها. 

وكلما غطّ بقدميه فوق عش جذورها.

هما مثل الأرض والفلاح. مثل الشاعر والورود.

لو افترقا. لو تخاصما. لو تقاتلا.  لو ذبلت هي، 

بان ذبولها على ملاحمح وجهه الحزين.

حتى الطبيعة الأم تحتاج للإنسان.

وهو يحتاجها لأنها رئته الثانية.

وهي تحتاجه لأنه الوحيد القادر أن يعجب بجمالها.

يتغزّل بها شِعراً ونثراً وموسيقى.

يرسمها لوحة ويعلّقها في جدران ذاته.

فمن ذا الذي، غير الإنسان، يتغنّى بشجرة؟

ومن ذا الذي، غير الإنسان، يجعل الوردة رمزاً للحب؟

 ومن غيرالإنسان يعطي للجبل صفتَي القوة والثبات؟ 

ومن غيره ينسج في البحرِ قصصاً وروايات؟

 ومن غير الإنسان يلقي قصيدة بشاطىءٍ؟

ومن غيره يكتب في المطرِ شعراً؟

ومن  غيره يلحّن لرقصة حبّات القمح معزوفةً ؟

وللريح العاتية الجبارة سيمفونية؟

حسناً فعلتْ حواء بإقناعها آدم أكل التفاحة، كما يُقال.

فلولا ذلك، لما عرفا الصواب من الخطأ .

ولولا ذلك، لما أدركا أنه من الخطأ الفظيع عدم

 وجود، في عالمنا هذا، السيمفونيات.

ومن الخطأ الكبير أيضاً نضوب دنيانا من الرسم والنحت

 والشِعر وكل باقي الفنون.

تُرى لو كانت هناك أبديّة، هل كان هناك موزار وبيتهوفن؟

وفان غوغ وبيكاسو، ولوحة الموناليزا الخالدة؟

وهل كنا قرأنا لتشيخوف ونزار وتولتسوي وغوركي 

وبوشكين، ونجيب محفوظ، وأدونيس، ومحمد الماغوط،

وشيكسبير، وبروست، غابريلا ماركيز؟

لو كانت هناك أبدية، لانتفت الحاجة حتى إلى الإستيقاظ من

 السرير في الصباح الباكر.

الإنسان والزمن صديقان لدودان.

والإنسان والطبيعة  قصيدة واحدة في ديوان الحياة.

هو جُملُها وهي حروفُه.

يجلس الإنسان في غرفته الضيّقة ويحلم ببحر.

ننزوي في مقاهينا المغلقة ونتغزّل بشاطىء. 

بسنديانة. بجلنار. 

وبالرغم من كل الديكورات المعقّدة والحديثة، وبالرغم من 

كل الأثاث الفاخر، وبالرغم من الرخام والبورسلان، 

يبقى أجمل ما في البيت هي الشرفة المطلّة على تلك الواحةِ 

الساحرة الخضراء.

والشبّاك الذي تجمّله أوراق غصن، أو يلوّنه ازرقاق بحر.

نمشي على إسفلت الطريق، بين جدرانٍ من هنا، وجدران من

 هناك، ونحلم بشجرة.

 ولكن، " لماذا هذه الشجرة بالذات؟".

حتى آدم نفسه لا يدري.

حين يداهمك الحبُّ يضيعُ اليقين.

ألجواب ليس هنا. ألجواب هناك. يقطنُ هناك. يسكن هناك.

حيث كرم الزيتون.

حيث القمر والجبل مع الريح والبلابل يغنّون.

هناك.

حيث البساطةْ الجميلة، والقيم المنيرة.

والأرض التي لم تبتلعها  حيتان "الحضارة" بعد.

هناك حيث الشجرة .

 آه. كم يشتاق إليها الآن.

صورتها على شاشة الكمبيوتر  تتورّد أمام ناظريه. 

موسيقى تنصيب العاهل ملكاً ما زالت تصدح مِن التلفاز.

يربح الكمبيوتر جولته هذه.

يصوّب آدم ناظريه نحو الشاشة. لكنه لا يرى فيها إلا الشجرة.

يُسامر جذعها. يحاكي أغصانها. 

تتدلّى نظراته، مثل حبّات الزيتون، من أوراقها.

قلبه لقلبِها يرسل سلامات. هو الذي بينه وبينها حكايات.

وتركض أصابعه نحو  لوحة المفاتيح،

وتكتب حرفاً، ثم كلمة، ثم كلمات. 

وتتورّد الشاشة حباً. وتشتعل الغرفة بالحياة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

متهم بلا شهود بقلم الشاعر عثمان كاظم لفته

  ســيدي القـــاضـــي جلبوني اليكَ بلا احلام اليوم وغداً والماضي وهاأنذا بين يديكَ بلا احلام…  اذاً أنتَ ســـتــُقاضــي شخصا إفتراضــي وأنا ...