الخميس، 17 مارس 2022

حديث الجمعة حكاية البطيخة قصة بقلم علي الشافعي

 


          في موروثنا الشعبي ــ ايها السادة الافاضل ــ حكاية بسيطة , اعتادت الجدات روايتها على مسامع الصبايا المقبلات على الزواج , لعل فيها من العبرة اضعاف ما تحوي من الكَلِم . الحكاية بسيطة وسأصوغها بلغة فصيحة سهلة , مع بعض الرتوش التي توضح رمزيتها , واهديها لبناتنا المقبلات على الزواج .

         (البطيخة) بلهجة اهل الشام ومصر, وفي حلب (الجبس)  وفي العراق والكويت (الرِّقِّي) وفي الخليج (الحَبْحب , الجح ) , وفي لهجة اهل المغرب (الدِّلاع , دلاح ) فاكهة صيفية كبيرة الحجم مرطبة لذيذة الطعم , وهي انواع كثيرة اشهرها واحلاها الذي يزرع بعلا في مرج ابن عامر السليب , شمال فلسطين المحتلة , ويمتاز بحلاوته وطول مدة تخزينه , وبذوره الكبيرة المكحّلة يتسلى عليها السُّمَّار بعد تحميصها على الكانون في ليالي الشتاء الطويلة . لنعود للحكاية ــ يا دام سعدكم ــ بعد ام توحدوا الله وتصلوا على النبي :

           عامر وعمير صديقان حميمان , اتفقا على ان يبحثا عن ابنتي الحلال ليكملا نصف دينهما , ويكوّنا اسرة سعيدة ترفرف عليها طيور الحب , ذهب الشابان الى شيخ صالح يسكن في ظاهر القرية يستنصحانه كيف يختاران الزوجة المناسبة , قال الرجل يا ولدّي  "المستشار مؤتمن " كما يقول عليه الصلاة والسلام , وسأنصح لكما ما استطعت , عندي لكما ثلاث نصائح  : الاولى قبل الزواج , والثانية ليلة الزواج , والثالثة على الاربعين . اما الاولى فأقول لكما : اذهبا واصِّلا زوجتيكما , يتأصل ابناؤكما . اما الثانية  : ففي ليلة الزفاف فليسأل كل منكما زوجته لمرة واحدة السؤال التالي : ( انت معي على الدهر ام انت مع الدهر على ؟) وان طلبت احداهما الاستفسار ولم تفهم السؤال , فليتشاغل صاحبها ولا يعيد سؤاله , ثم تعودا الي على الاربعين لأعطيكما النصيحة الثالثة . انطلق الشابان وقد فهم كل منهما تأصيل الزوجة بطريقة مختلفة ؛ اما عامر ففهم ان التأصيل يكون من جهة الاب فذهب يبحث عن بنت الحسب والنسب والمجلّلة بالقصب والذهب , حتى اهتدى اليها , واما عمير ففهمها من جهة الام , فاخذ يبحث عن فتاة امها اصيلة صابرة على شظف العيش راضية بما قسم الله لزوجها , حتى وجدها في ابنة حطاب فتزوجها , واقيمت الافراح والليالي الملاح , ودخل الاثنان في نفس الليلة القفص الذهبي , او هكذا يسمونه وقد يكون حديديا واقوى من اقفاص سجون بني اسرائيل في ارض الحشر .  

           لم ينسَ الشابان وصية الشيخ , فسال كل منهما زوجته ذلك السؤال , اما زوجة عامر بنت الحسب والنسب الموشّاة بالقصب فقالت : لم افهم ما تقول ! اعد علي السؤال . واما زوجة عمير فقالت على الفور : انا وانت على نوائب الدهر يا ابن العم . وبات الجميع في اهنا حال . 

         بعد اربعين يوما من زواجهما الميمون , ذهب الشابان معا لزيارة الشيخ , الذي بارك لهما البيتين الجديدين , ثم قال لهما وجب على الان ان ازور كلا منكما في بيته لأهنئه,  ولي عندكما طلب , ان يشتري كل منكما بطيخة واحدة فقط , واسرَّ لهما ببعض كلمات , عاد بعدها كل الى بيته  فرحا يحمل بين يديه بطيخة . 

          تعرفون البيوت العربية في فلسطين المسماة (القناطر) , عادة في البيت من ثلاث الى خمس قناطر يرفع عليها السقف , بين القنطرة والاخرى سدة خشبية عالية , لرفع المونة وتخزينها , وعادة تحتاج لسلم حتى يصعد الشخص اليها , طلب كل منهما من زوجه ان تضع البطيخة على السدة لحين زيارة الشيخ , في المساء بدا الشيخ بزيارة عمير وتسامرا , واثناء الحديث قال عمير لزوجه ابنة الحطاب : يا فلانة اصعدي للسدة واحضري لنا بطيخة لناكلها ونتسلى على بذورها . ارتقت الزوجة الى السّدة واحضرت البطيخة ونزلت فلما رأى الزوج البطيخة قال لها : ما هذه البطيخة الا يوجد احسن منها , اصعدي واحضري غبرها . ارتقت الزوجة مرة اخري واحضرت بطيخة تلمع ونزلت  فقال : وهذه ايضا لا تعجبني هات غيرها . ارتقت ثالثة واحضرت البطيخة بشكل اخر , وهكذا عدة مرات حتي تعبت الزوجة فقالت : والله يا ابا فلان : الخير بوجهك , والبطيخ كثير لا ادري ما احضر . فوافقها زوجها وقال : ( خلاص اشكحي هذه ) أي اسطحيها وقطعيها . عند ذلك قال الشيخ بارك الله لك يا بني في اهلك ومالك , هذه الزوجة التي يتوج على عرش قلوب قبل عرش البيوت . يا بني : حافظ على عتبة بيتك . ثم خرج . 

             في اليوم التالي زار شيخنا عامر وزوجه ؛ بنت الحسب والنسب وفرط الادب والمغطاة من راسها الى قدمها بالذهب , فلما طال بهما المقام قال عامر : يا فلانه : احضري لنا بطيخة لناكلها ونتسلى ببذورها . احضرت الزوجة البطيخة فقال لها الزوج : هذه لا تعجبني احضري غيرها , فوقفت على طرف السلم قائلة : البين يغشاك , والله والكشل والستشن على لحيتك , (حبيت اصوغ العبارة باللهجة الفلسطينية لأني ما وجدت بالعربية تعبيرا اشد لذعا منها ) , هو انت جبت لنا غيرها ؟ هو بيتنا في شيء ؟ والله الغربان تعاف تسكنه . واسمعته موشحا عن بخله وكرم ابيها , فقال الضيف على الفور : افهمت ما كنت اقصد ؟ يا بني : غير عتبة بيتك 

       وبمناسبة عتبة البيت لمن لم تفهم مغزى القصة اقول : تذكرني  هذه القصة بما اثر عن ابراهيم ابي الانبياء مع ولده اسماعيل عليهما السلام , في حديث مطوّل للرسول صلى الله عليه وسلم , والحديث في البخاري ( قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ : خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا . ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ : نَحْنُ بِشَرٍّ نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ وَشَكَتْ إِلَيْهِ . فقَالَ : فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ . فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا ، فَقَالَ : هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ جَاءَنَا ، شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا ، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ . قَالَ : فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ؛ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ ، وَيَقُولُ : غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ . قَالَ : ذَاكِ أَبِي وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ ؛ الْحَقِي بِأَهْلِكِ .  فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ (قبيلة جرهم) أُخْرَى ، فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ ، فَقَالَتْ : خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا . قَالَ : كَيْفَ أَنْتُمْ ، وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ ؟ فَقَالَتْ : نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ ، وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ .  فَقَالَ : مَا طَعَامُكُمْ ؟ قَالَتْ : اللَّحْمُ . قَالَ : فَمَا شَرَابُكُمْ ؟ قَالَتْ الْمَاءُ .  قَالَ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ ، ثم قَالَ فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ . فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ : هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ ، فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ ، فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ ، قَالَ : فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ . قَالَ : ذَاكِ أَبِي وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ ) .

        وبعد ــ يا سادة يا كرام ــ هذه قصة البطيخة , فهل ادركت بناتنا مغزاها ؟ وكيف تكون مع وزوجها على نوائب الدهر ؟ وكيف تكون سترا لزوجها ؟ وهل ستعينه على تثبيت عتبة بابه ام على تغييرها ؟ طبتم وطابت اوقاتكم .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

متهم بلا شهود بقلم الشاعر عثمان كاظم لفته

  ســيدي القـــاضـــي جلبوني اليكَ بلا احلام اليوم وغداً والماضي وهاأنذا بين يديكَ بلا احلام…  اذاً أنتَ ســـتــُقاضــي شخصا إفتراضــي وأنا ...