الحلقة الأولى /الثانية /الثالثة
من رواية جميلة
الجزء الاول /جميلة وشياطين الإنس
ركَبْتُ طريق العودة إلى الماضي؛ لأصلَ رحمي في البلدة القديمة، طَفَت ذكرياته الطيبة من أعماقي على سطح الواقع، تجسدت في خاطري، حضنت طيب الفرحة، استنشقت عطرها وتذوقته شهدًا، جرى في عروقي، انشرح صدري وغمرتني سعادة كادت تزهق أنفاس مر الواقع، وصلنا..
من خلف زجاج السيارة تلمست ملامح البلدة القديمة، كدت لا أتعرف عليها في ردائها المتمدين الجديد، من مباني، محلات، شوارع، باعة، زينة وزحام، لا أعرف من الغريب عن الآخر..؟!
أنا أم هي. .؟!
ما زال هناك بعض ملامح التدين، المآذن والأجراس تتعانق في السماء، والسمات في الوجوه من أثر السجود، اللحى مهذبة، أخرى مطلقة، المسابح في الأيدي معلقة، الجلاليب قصيرة، معظم النساء شعورهن مغطاه، رسمت الملابس لأجسادهن لوحة بأدق تفاصيلها، رقصت عليها الشياطين عازفة على أوتارها الإغواءات، يموج حال الواقع بالفتن أينما توجه بصرك تجدها.. لا سبيل لغض البصر، أصبح الحول بالنظر إلى السماء أو العمى نعمة وأمنية لكل قلب طهور، بمجرد أن وطأت قدمي الأرض
(4)
دُكَّت ملامح التدين دكاً دكاً، ولفحتني رياح المعاملات والسلوكيات، وغبرت وجهي ووجه ماضٍ طيب بداخلي، بدأت تنهار قصوره في أعماقي، انقبض قلبي وعلت نبضاته، كاد يقفز من صدري، انعقد الحزن على وجهي، انطفأت سعادتي، تلمست الأرض بعد أن ابتلعت علقم الواقع المر، قاصدة حياة امرأة بسيطة وسط البلدة في دارها البسيطة المستأجرة من الثمانينيات، مبنية من الطوب اللبن السميك، ارتدت ثوبها الجديد بلون الجير الزهري، ونقش عليه نخلة وجمل - حين تزوج ابنها وحيد من ابنة خاله جميلة -، ذات نافذة وحيدة مطلة على الشارع لا تتعدى طولها في عرضها نصف متر في نصف متر، عبارة عن جزء من لوحين من الخشب ربط بينهما من المنتصف بقطعة منه، لم يكن الغرض منها إدخال الهواء بقدر إدخال الضوء واستغلال سمك الحائط كثلاجة مياه توضع عليه صينية معدنية من الألمنيوم، تباهي الشمس بعكس أشعتها، توضع بها "قلتان" توجتا بغطاء من النحاس، ولونت النافذة والباب ذو الشراعة الحديدية بلون أخضر، يسبق الباب عدة درجات، اتخذت سلما ليس للصعود إلى أعلى بل للنزول إلى أسفل؛ لبلوغ قاع الدار وحال أهله بعد أن ارتفع الشارع وحاله وأصبحت الدار مصباً للأمطار في فصل الشتاء، ما أن وصلت للدار، ورأت عيناي الباب حتى
(5)
سمعته ينعي حاله لما ترك عليه من كسور استصعب علاجها، وأخرى جبرت تدل على أنه لم يطرق بأيدٍ ناعمة أو عادية، بل طرق بآلة من الحديد، أو قدم وحش كاسر، ثار بركان الفزع داخلي ومددت يدي والتردد يملؤها ويملأ فكري في تعجب من أمره، من يكسر باب امرأة بسيطة هي الملجأ الوحيد لكل من يريد أن يتقرب إلى الله من فاعل خير أو متصدق؟! ابتلعت القلق وجنبت الأفكار التي تدلت من فكر رأسي، لما رأت عيني جانباً، طرقت الباب، كوني على علم بمن في الدار، رد عليَّ الجميع بصوت فاضت منه رعشة الخوف، سمعت صوت الجدة العجوز وجميلة وطفلة صغيرة والرضيعة بدأت تبكي قلت:
- فلانة..
فتحت جميلة الباب بوجه امتص الخوف منه الدم ولونه بلون أصفر وعينين مرتجفتين، بعد شهيق عميق تلاحقت كلمات الترحيب وعلت تدريجيا. الرضيع تمسك في ذيل ثوبها باكية، ومن خلفها الأم العجوز، تجلس على حصيرة من البلاستيك، مادة ساقيها، وطفلة في الخامسة من عمرها اخترقت الهواء ودخلت إحدى الحجرات، نزلت الدرجات لبلوغ قاع الدار وحال أهلها، سلمت على جميلة، أسرعت إلى العجوز وسلمت عليها .
(6)
جلست على إحدى الوسائد المجاورة لها، على الحائط أمامي صورة صاحب الدار، اتخذ الكعبة المشرفة خلفية لصورته؛ تبركًا بها، ترحمت عليه وعلى جميع الأموات، لقد وافته المنية بعد أن فقد بصره وهو في سن المعاش، عاش مرتدياً ثوب الكرم والسمعة الطيبة، اشتهر بقصائد المدح في كلامه أنه يرى مأمور القسم ويلقى عليه التحية يومياً عند تسليم سلاحه مُردداً أنه زميل المأمور، ما أن سألت عن الابن الوحيد، حتى عم الحزن المكان صوت وصورة، عزفت الجدة العجوز سمفونية النحيب، "يا أنا يا أمي".
امتلأ بالحزن شريان جبين جميلة، وكسا الأسى والقهر ملامح وجهها، اعتقدت أنه فارق الحياة، فاضت الدموع من عيني دون إرادة مني، ومشاعر المواساة من قلبي ويدي، أخذت أُربّت على العجوز وأواسيها فهو ابنها الوحيد، أنجبته بعد خمسة عشر عاماً من زواجها، وأردد "لا حول ولا قوة إلا بالله" حتى قالت العجوز:
- يا ليتنى لم أنجبه
دعت الله أن يتوفاه، حينها خرقت الكلمات قلب أذن فكري واتسعت عيناي، تنفست الصعداء، هدأت نفسي قليلا، حمدت الله أنه ما زال على قيد الحياة، لكن.. سرعان ما
(7)
ثار بركان القلق والحيرة داخلي، وسط تساؤلات بين أفكاري في صمت، أي جريمة ارتكبها أو مصيبة اقترفها..؟، حتى عشعش الحزن والأسى في أركان الدار وأهلها، وهجرها ما كنا نعتاد عليه من بساطة القلب والقالب وسمو الطابع، فاضت مواساة يدي على العجوز بإلحاح أن تهدأ، وجميلة جالسة أمامي تسند كوعها على ساقها، ساندة جبينها بكفها، تحاول كتم صرخات الأسى المدوية، وتخفى حسرة دموعها الواضحة..
من ورائها تقف الرضيعة تستند إلى ظهرها، تربع الألم بداخلها، بُنيت منه خلايا تكوينها، لقد ابتلعته إما مدسوسا في لبن أمها أو من فضفضات قلب الجدة العجوز، ومن خلفهما تقف أختها وراء الباب تختلس النظرات في خفاء، تهتز جميلة اهتزازات الأسى والألم على نواح الجدة العجوز، ثم شهقته وكتمته في أعماقها ونهضت واستأذنت للذهاب إلى العمل في إحدى العيادات الخاصة؛ لتوفر متطلبات البيت الأساسية، أخذت الجدة العجوز الرضيعة ووضعتها على ساقها وأسندتها على قلبها .
لم تفلح مواساة قلبي وحنين يدي من تهدئة الأم العجوز، لكن صمتت عن عزف النواح وقالت:
- ابني جرفه تيار الفساد من رفقاء السوء، تغير كتغير النهار إلى الليل والأبيض إلى الأسود، ألبسني ثوب
(8)
- المرض والعار الذي لا تبليه الأيام في عجلة ومن غير أوان. نور عيني أسكن بياض الحزن عيني. فلذة كبدي تضخم منه كبدي، نبض قلبي جمد الدم في عروقي، وتسبب لي في جلطة، ابني أزهق أنفاسي. كدت أفارق الحياة، سكن جسدي وروحي المرض والحزن.
أصبحت طريحة الفراش، ألتقط أنفاسي من أجل هذه الرضيعة، أحملها على ساقي التي فارقت الحياة ويفضفض لها قلبي، ابني استحل عمري ومالي الذي ادخرت من معاش والده، ومال العالم، سكن الخراب دارنا ودور العالم، هلك وأهلكنا جميعا معه، هرب من صنعه وما قدمت يداه ولا نعرف الأرض التي يسكنها، ولا الماء والطعام الذي يشربه ويأكله، ومن أي هواء يتنفس، المباحث من حين لآخر تأتي إلينا وتكسر الباب علينا باحثة عنه، هرب وترك لنا العار والضياع، كتبه على حاضرنا ومستقبلنا، كل يوم يأتي ناس جدد يحررون له محاضر استيلاء على أموالهم وتبديد بضاعتهم، لم يراعِ مشيب أمه ولا زوجته ابنة خاله من لحمه ودمه ولا أطفاله الصغار..
(9)
ثم عاودت النواح مرة ثانية، والرضيعة ترضع مشاعر الأسى من نبض قلبها، والأخرى تنكمش والخوف تحت إبطها.. بدأت ستائر الظلام تتدلى في خاطري وملامح الغد المأساوي الذي كتبه الزوج والابن الوحيد على هذه الأسرة يتجسد أمام عيني، يُبَث في عرض حصري لي في روايات عدة عن غد جميلة والطفلتين والجدة العجوز..
(10)
الرواية الأولي جميلة وشياطين الإنس
بعد هروب الزوج بسبب الاستيلاء على أموال الناس دون وجه حق، والجري وراء شهواته، وأُيدت ضده عدة أحكام.
قامت مجموعة من شياطين الإنس في المنطقة بخطف جميلة واغتصابها ويلقونها في شوارع الحياة المظلمة ممزقة الحاضر، المستقبل والثوب، منكوشة الحال والفكر والشعر، تحاول أن تنهض من أجل طفلتيها تتعثر قدمها في الأخرى كما يتعثر حاضرها في ماضيها. من حين إلى آخر يقومون بخطفها، ومخالبهم على جسدها وروحها، حاضرها ومستقبلها، ومستقبل طفلتيها . طريق الضياع هو الطريق الوحيد الذي أسكنها زوجها الضال إياه وسط عالم تجرد من الإنسانية وزوج اتبع الهوى فهوى...
جميلة وانتقام صاحب المال
بعد موت الجدة العجوز، وهروب الزوج يقوم صاحب المال انتقاماً منه بخطف جميلة، ويلبسها ثوب الذل والعار، يرغمها على فعل المنكر لصالح نمو تجارته، مستغلاً البنتين اللتين أسكنهما في مكان مجهول للجميع، ولا يحق لجميلة مجرد الاطمئنان عليهما إلا إذا نفذت مطالبه داخل البلاد وخارجها، ثم تعلم جميلة أنه اغتصب ابنتيها؛ تبلغ عنه الشرطة وتعاونهم في القبض عليه وكشف سر تجارته المشبوهة فيقوم بقتل البنتين.
جميلة و زوج الأم
ماتت الجدة العجوز وطلبت جميلة الطلاق وتزوجت من شخص آخر على علم بكل أحداث الماضي، ليس هناك فارق كبير بينه وبين الزوج الأول، قضت حياتها تعمل وتنفق على الجميع، وعندما ذبل جمالها تحرش بالبنتين، هربتا منه، وهربت جميلة للبحث عنهما ...
جميلة والشاذ
خطف البنت الكبرى الشاذ صديق الزوج الهارب الذي يسكن في نفس الشارع، اغتصبها وقتلها؛ خوفاً من إفشاء سره، والقيها في النهر انتقاماً مما كان يفعله أبوها مع زوجته تحت مسمع ومرأى عينه، ويبحث مع جميلة عن القاتل ويقع في حب جميلة وتكتشف جميلة حقيقته وتقتله ويبقى الأسى والحزن للرضيع...
أوقفت خواطري المتشائمة في رؤية غد جميلة وطفلتيها ودعوت الله أن يتلطف بهم، كيف لشخص يكتب حياة الضياع على أسرة كاملة بسبب أهوائه وغرائزه. تفاءلت الخير من الله لهذه الأسرة، فكانت الروايات:
◄ هداية الضال
وهو عودة الزوج إلى الأسرة مع التزامه وإكمال الحياة معهم.
◄ موت الفساد
وهو موت الزوج وتكمل جميلة حياتها مع طفليتها...
مازلت أكتب لكم
دمتم بخير أحبتي
سياده العزومي
من رواية جميلة
الجزء الاول /جميلة وشياطين الإنس
ركَبْتُ طريق العودة إلى الماضي؛ لأصلَ رحمي في البلدة القديمة، طَفَت ذكرياته الطيبة من أعماقي على سطح الواقع، تجسدت في خاطري، حضنت طيب الفرحة، استنشقت عطرها وتذوقته شهدًا، جرى في عروقي، انشرح صدري وغمرتني سعادة كادت تزهق أنفاس مر الواقع، وصلنا..
من خلف زجاج السيارة تلمست ملامح البلدة القديمة، كدت لا أتعرف عليها في ردائها المتمدين الجديد، من مباني، محلات، شوارع، باعة، زينة وزحام، لا أعرف من الغريب عن الآخر..؟!
أنا أم هي. .؟!
ما زال هناك بعض ملامح التدين، المآذن والأجراس تتعانق في السماء، والسمات في الوجوه من أثر السجود، اللحى مهذبة، أخرى مطلقة، المسابح في الأيدي معلقة، الجلاليب قصيرة، معظم النساء شعورهن مغطاه، رسمت الملابس لأجسادهن لوحة بأدق تفاصيلها، رقصت عليها الشياطين عازفة على أوتارها الإغواءات، يموج حال الواقع بالفتن أينما توجه بصرك تجدها.. لا سبيل لغض البصر، أصبح الحول بالنظر إلى السماء أو العمى نعمة وأمنية لكل قلب طهور، بمجرد أن وطأت قدمي الأرض
(4)
دُكَّت ملامح التدين دكاً دكاً، ولفحتني رياح المعاملات والسلوكيات، وغبرت وجهي ووجه ماضٍ طيب بداخلي، بدأت تنهار قصوره في أعماقي، انقبض قلبي وعلت نبضاته، كاد يقفز من صدري، انعقد الحزن على وجهي، انطفأت سعادتي، تلمست الأرض بعد أن ابتلعت علقم الواقع المر، قاصدة حياة امرأة بسيطة وسط البلدة في دارها البسيطة المستأجرة من الثمانينيات، مبنية من الطوب اللبن السميك، ارتدت ثوبها الجديد بلون الجير الزهري، ونقش عليه نخلة وجمل - حين تزوج ابنها وحيد من ابنة خاله جميلة -، ذات نافذة وحيدة مطلة على الشارع لا تتعدى طولها في عرضها نصف متر في نصف متر، عبارة عن جزء من لوحين من الخشب ربط بينهما من المنتصف بقطعة منه، لم يكن الغرض منها إدخال الهواء بقدر إدخال الضوء واستغلال سمك الحائط كثلاجة مياه توضع عليه صينية معدنية من الألمنيوم، تباهي الشمس بعكس أشعتها، توضع بها "قلتان" توجتا بغطاء من النحاس، ولونت النافذة والباب ذو الشراعة الحديدية بلون أخضر، يسبق الباب عدة درجات، اتخذت سلما ليس للصعود إلى أعلى بل للنزول إلى أسفل؛ لبلوغ قاع الدار وحال أهله بعد أن ارتفع الشارع وحاله وأصبحت الدار مصباً للأمطار في فصل الشتاء، ما أن وصلت للدار، ورأت عيناي الباب حتى
(5)
سمعته ينعي حاله لما ترك عليه من كسور استصعب علاجها، وأخرى جبرت تدل على أنه لم يطرق بأيدٍ ناعمة أو عادية، بل طرق بآلة من الحديد، أو قدم وحش كاسر، ثار بركان الفزع داخلي ومددت يدي والتردد يملؤها ويملأ فكري في تعجب من أمره، من يكسر باب امرأة بسيطة هي الملجأ الوحيد لكل من يريد أن يتقرب إلى الله من فاعل خير أو متصدق؟! ابتلعت القلق وجنبت الأفكار التي تدلت من فكر رأسي، لما رأت عيني جانباً، طرقت الباب، كوني على علم بمن في الدار، رد عليَّ الجميع بصوت فاضت منه رعشة الخوف، سمعت صوت الجدة العجوز وجميلة وطفلة صغيرة والرضيعة بدأت تبكي قلت:
- فلانة..
فتحت جميلة الباب بوجه امتص الخوف منه الدم ولونه بلون أصفر وعينين مرتجفتين، بعد شهيق عميق تلاحقت كلمات الترحيب وعلت تدريجيا. الرضيع تمسك في ذيل ثوبها باكية، ومن خلفها الأم العجوز، تجلس على حصيرة من البلاستيك، مادة ساقيها، وطفلة في الخامسة من عمرها اخترقت الهواء ودخلت إحدى الحجرات، نزلت الدرجات لبلوغ قاع الدار وحال أهلها، سلمت على جميلة، أسرعت إلى العجوز وسلمت عليها .
(6)
جلست على إحدى الوسائد المجاورة لها، على الحائط أمامي صورة صاحب الدار، اتخذ الكعبة المشرفة خلفية لصورته؛ تبركًا بها، ترحمت عليه وعلى جميع الأموات، لقد وافته المنية بعد أن فقد بصره وهو في سن المعاش، عاش مرتدياً ثوب الكرم والسمعة الطيبة، اشتهر بقصائد المدح في كلامه أنه يرى مأمور القسم ويلقى عليه التحية يومياً عند تسليم سلاحه مُردداً أنه زميل المأمور، ما أن سألت عن الابن الوحيد، حتى عم الحزن المكان صوت وصورة، عزفت الجدة العجوز سمفونية النحيب، "يا أنا يا أمي".
امتلأ بالحزن شريان جبين جميلة، وكسا الأسى والقهر ملامح وجهها، اعتقدت أنه فارق الحياة، فاضت الدموع من عيني دون إرادة مني، ومشاعر المواساة من قلبي ويدي، أخذت أُربّت على العجوز وأواسيها فهو ابنها الوحيد، أنجبته بعد خمسة عشر عاماً من زواجها، وأردد "لا حول ولا قوة إلا بالله" حتى قالت العجوز:
- يا ليتنى لم أنجبه
دعت الله أن يتوفاه، حينها خرقت الكلمات قلب أذن فكري واتسعت عيناي، تنفست الصعداء، هدأت نفسي قليلا، حمدت الله أنه ما زال على قيد الحياة، لكن.. سرعان ما
(7)
ثار بركان القلق والحيرة داخلي، وسط تساؤلات بين أفكاري في صمت، أي جريمة ارتكبها أو مصيبة اقترفها..؟، حتى عشعش الحزن والأسى في أركان الدار وأهلها، وهجرها ما كنا نعتاد عليه من بساطة القلب والقالب وسمو الطابع، فاضت مواساة يدي على العجوز بإلحاح أن تهدأ، وجميلة جالسة أمامي تسند كوعها على ساقها، ساندة جبينها بكفها، تحاول كتم صرخات الأسى المدوية، وتخفى حسرة دموعها الواضحة..
من ورائها تقف الرضيعة تستند إلى ظهرها، تربع الألم بداخلها، بُنيت منه خلايا تكوينها، لقد ابتلعته إما مدسوسا في لبن أمها أو من فضفضات قلب الجدة العجوز، ومن خلفهما تقف أختها وراء الباب تختلس النظرات في خفاء، تهتز جميلة اهتزازات الأسى والألم على نواح الجدة العجوز، ثم شهقته وكتمته في أعماقها ونهضت واستأذنت للذهاب إلى العمل في إحدى العيادات الخاصة؛ لتوفر متطلبات البيت الأساسية، أخذت الجدة العجوز الرضيعة ووضعتها على ساقها وأسندتها على قلبها .
لم تفلح مواساة قلبي وحنين يدي من تهدئة الأم العجوز، لكن صمتت عن عزف النواح وقالت:
- ابني جرفه تيار الفساد من رفقاء السوء، تغير كتغير النهار إلى الليل والأبيض إلى الأسود، ألبسني ثوب
(8)
- المرض والعار الذي لا تبليه الأيام في عجلة ومن غير أوان. نور عيني أسكن بياض الحزن عيني. فلذة كبدي تضخم منه كبدي، نبض قلبي جمد الدم في عروقي، وتسبب لي في جلطة، ابني أزهق أنفاسي. كدت أفارق الحياة، سكن جسدي وروحي المرض والحزن.
أصبحت طريحة الفراش، ألتقط أنفاسي من أجل هذه الرضيعة، أحملها على ساقي التي فارقت الحياة ويفضفض لها قلبي، ابني استحل عمري ومالي الذي ادخرت من معاش والده، ومال العالم، سكن الخراب دارنا ودور العالم، هلك وأهلكنا جميعا معه، هرب من صنعه وما قدمت يداه ولا نعرف الأرض التي يسكنها، ولا الماء والطعام الذي يشربه ويأكله، ومن أي هواء يتنفس، المباحث من حين لآخر تأتي إلينا وتكسر الباب علينا باحثة عنه، هرب وترك لنا العار والضياع، كتبه على حاضرنا ومستقبلنا، كل يوم يأتي ناس جدد يحررون له محاضر استيلاء على أموالهم وتبديد بضاعتهم، لم يراعِ مشيب أمه ولا زوجته ابنة خاله من لحمه ودمه ولا أطفاله الصغار..
(9)
ثم عاودت النواح مرة ثانية، والرضيعة ترضع مشاعر الأسى من نبض قلبها، والأخرى تنكمش والخوف تحت إبطها.. بدأت ستائر الظلام تتدلى في خاطري وملامح الغد المأساوي الذي كتبه الزوج والابن الوحيد على هذه الأسرة يتجسد أمام عيني، يُبَث في عرض حصري لي في روايات عدة عن غد جميلة والطفلتين والجدة العجوز..
(10)
الرواية الأولي جميلة وشياطين الإنس
بعد هروب الزوج بسبب الاستيلاء على أموال الناس دون وجه حق، والجري وراء شهواته، وأُيدت ضده عدة أحكام.
قامت مجموعة من شياطين الإنس في المنطقة بخطف جميلة واغتصابها ويلقونها في شوارع الحياة المظلمة ممزقة الحاضر، المستقبل والثوب، منكوشة الحال والفكر والشعر، تحاول أن تنهض من أجل طفلتيها تتعثر قدمها في الأخرى كما يتعثر حاضرها في ماضيها. من حين إلى آخر يقومون بخطفها، ومخالبهم على جسدها وروحها، حاضرها ومستقبلها، ومستقبل طفلتيها . طريق الضياع هو الطريق الوحيد الذي أسكنها زوجها الضال إياه وسط عالم تجرد من الإنسانية وزوج اتبع الهوى فهوى...
جميلة وانتقام صاحب المال
بعد موت الجدة العجوز، وهروب الزوج يقوم صاحب المال انتقاماً منه بخطف جميلة، ويلبسها ثوب الذل والعار، يرغمها على فعل المنكر لصالح نمو تجارته، مستغلاً البنتين اللتين أسكنهما في مكان مجهول للجميع، ولا يحق لجميلة مجرد الاطمئنان عليهما إلا إذا نفذت مطالبه داخل البلاد وخارجها، ثم تعلم جميلة أنه اغتصب ابنتيها؛ تبلغ عنه الشرطة وتعاونهم في القبض عليه وكشف سر تجارته المشبوهة فيقوم بقتل البنتين.
جميلة و زوج الأم
ماتت الجدة العجوز وطلبت جميلة الطلاق وتزوجت من شخص آخر على علم بكل أحداث الماضي، ليس هناك فارق كبير بينه وبين الزوج الأول، قضت حياتها تعمل وتنفق على الجميع، وعندما ذبل جمالها تحرش بالبنتين، هربتا منه، وهربت جميلة للبحث عنهما ...
جميلة والشاذ
خطف البنت الكبرى الشاذ صديق الزوج الهارب الذي يسكن في نفس الشارع، اغتصبها وقتلها؛ خوفاً من إفشاء سره، والقيها في النهر انتقاماً مما كان يفعله أبوها مع زوجته تحت مسمع ومرأى عينه، ويبحث مع جميلة عن القاتل ويقع في حب جميلة وتكتشف جميلة حقيقته وتقتله ويبقى الأسى والحزن للرضيع...
أوقفت خواطري المتشائمة في رؤية غد جميلة وطفلتيها ودعوت الله أن يتلطف بهم، كيف لشخص يكتب حياة الضياع على أسرة كاملة بسبب أهوائه وغرائزه. تفاءلت الخير من الله لهذه الأسرة، فكانت الروايات:
◄ هداية الضال
وهو عودة الزوج إلى الأسرة مع التزامه وإكمال الحياة معهم.
◄ موت الفساد
وهو موت الزوج وتكمل جميلة حياتها مع طفليتها...
مازلت أكتب لكم
دمتم بخير أحبتي
سياده العزومي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق