السبت، 11 مايو 2019

رسالة بعد الرحيل /قصة قصيرة بقلم الكاتبة أمل الياسري

  
رسالة بعد الرحيل!
سحبَتْ يدَها من يدِ المسعفِ، كانَ ينوي إعطاءَها الإسعافاتِ الأوليةِ، لكنَّ عيونَها إنهمرَتْ دموعاً، حتى أنَّ سريرَ سيارةِ الإسعافِ إبتلَ لكثرةِ بكائِها، فسألَها عن السببِ: أجابَتْهُ بوجٍع: أليسَ حراماً أنْ تضعَ يدَكَ على يدي؟ أجابَها: أختاهُ أنا أرتدي قفازاتٍ طبيةً، ثم أنَّني أحاولُ إنقاذكِ فأنتِ في حالةٍ حرجةٍ.
أدارَتِ المرأةُ وجهَها عن المسعفِ، وكأنَّها تعتذرُ بصمتٍ، معَ حزنٍ عميقٍ وعمرٍ وجيعٍ.
أثارَ منظرُ المرأةِ عندَ المسعفِ إستغراباً شديداً وقالَ لها: أيُّ بشرٍ تعيشينَ معهُ؟ لمَ يفعلُ هذا معكِ؟
قالَتْ لهُ: لم أرَ شيئاً أبغضُ من ترديدِ زوجي لكلماتِ الإحباطِ لينتقصَ مني، كأنَّهُ يضعُني بصندوقٍ وفيهِ ثقبٌ أتنفسُ منهُ، لكنَّني في الوقتِ نفسِهِ كنْتُ أتأملُ من ذلكَ الثقبِ، كلَّ الأشياءِ الجميلةِ التي لا ثمنَ لها، وقتها أتذكرُ أنَّي عشْتُ وقلبي معهُ كانَ كالنهرِ، يشربُ منهُ ماءً عذباً كيفما شاءَ.
أستدركَها المسعفُ مستفهماً: معقولٌ؟! فأجابَتْهُ: نعم، بكلِّ تأكيدٍ.
زوجي يظنُّ أنَّهُ منتصرٌ عندما يحطمُ الآخرينَ، لكنَّ هؤلاءِ الآخرينَ يجعلونَ من حطامِهم شرارةً لينطلقوا نحوَ النجاحِ.
سألَها: لمَ لا يتغيرُ زوجُكِ؟ ردَّتْ عليهِ: يصعبُ إنتزاعُ الحقدِ من صدرهِ، كما لا يمكنُني تغييرهُ من الداخلِ، فأنتَ لا تهدي مَنْ احببتَ ولكنَّ اللهَ يهدي مَنْ يشاءُ.
قالَ لها: صدقْتِ أختاهُ، فنحنُ مَنْ نفشلُ في إنتقاءِ الأفكارِ التي تغيرُنا.
بادرَها بسؤالٍ: هل تتحدثينَ عنهُ بسوءٍ لتوحشهِ معكِ: أجابَتْهُ: عندَما يتحدثُ عني أمامَ الناسِ بسوءٍ، وأنا أعلمُ بأنَّني لم أخطئ في حقِّهِ، أحمدُ اللهَ كثيراً لأنَّه مشغولٌ بالكلامِ عني، ولم أنشغلْ بالحديثِ عنهُ، فما عندَ اللهِ خيرٌ وأبقى.
قالَتْ بألمٍ شديدٍ: ما دمْتُ على الحقِّ لن أتغيرَ لأرضيَهِ، ولن أبدلَ صوتي لأعجبَهُ، ولن أخالفَ مبادئي لأوافقَهُ في ترهاتهِ، وليعشْ في كذبتِه الكبرى، بأنَّ النساءَ الأخرياتِ هنَّ مصدرُ سعادتِهِ، ويوماً ما سيُرسلُ لهُ القدرُ رسائلَ تنبيهٍ، عندَها سيكونُ قدْ فاتَ الأوانُ.
جاءَ والدُها ووالدتُها مسرعينِ، ليحضروا لها إبنتَها (آمنة)، فنصحَهما الطبيبُ بعدمِ رؤيتِها، فذلكَ يثيرُ مشاعرَ ألمٍ عندَ الطفلةِ، وأسئلةً كثيرةً لن تستطيعَ فهمَ إجاباتِها، وعليهِ إنتظرا حتى تختفي الكدماتُ وتشفى الجروحُ!
بعدَ أيامٍ حضرَ المسعفُ باكراً وأزاحَ ستائرَ غرفتِها في المشفى وقال: للصباحِ صمتٌ جميلٌ.
أجابَتْهُ سريعاً: معَ اللهِ كلُّ شيءٍ جميلٍ، الصباحُ والمساءُ حيثُ لا جزعَ أو رعبَ، ولا خوفَ أو ذلَّ، ولا وجلَّ أو حذرَ، ولا فقرَ أو قلقَ، (فاللهُ يكفيني.. ويحميني.. وينجيني). 
تعجبَ المسعفُ من كلامِها فقالَ لها: (الحقيقةُ أنَّ سببَ عدمِ تقبلِ زوجكِ لكِ، لا يعني أنَّكِ سيئة الطباعِ، لكنَّ الخللَ في تفكيرهِ، وظنونهِ، وتصرفاتهِ، التي لا تتناسبُ ورقيِّ فكركِ وعقلكِ).
طلبَتْ من المسعفِ أنْ يحضرَ ورقةً وقلماً وقالَتْ: ستحضرُ (أمينةُ) قريباً لتأخذُني فأنا مشتاقةٌ جداً لها، أعطهِ هذه الورقةَ عندَ حضورهِ، وضعَتْ يدَها على رأسِها وقالَتْ: إنَّهُ يؤلُمني جداً إستدعِ الطبيبَ رجاءً، بدأَ ضغطُها بالإرتفاعِ ودقاتُ قلبِها تتسارعُ، وما أنَّ وصلَ الطبيبُ حتى لاحظَ أنَّها فارقَتْ الحياةَ.
حضرَ الزوجُ لإستلامِ جثةَ زوجتهِ، فأعطاهُ المسعفُ الورقةَ وكانَ مكتوباً فيها: إستحكمَتْ جذورُ المعصيةِ في قلبكَ، وباتَ استئصالُها امراً مستحيلاً، وأردْتُ أنْ أهدمَ كلَّ ناطحاتِ الكذبِ وسوءِ الظن حينَ بنيْتَها، لقد أرهقني جداً الوقوفُ على يدٍ واحدةٍ لمواجهةِ الحياةِ، خسرْتُ إبنتي (أمينة) بسببكَ، سكْبتَ الماءَ الحارَ عليها أثناءَ تعثركِ بها، وهي نائمةٌ على الأرضِ، (لقد أحببتُكَ وكأنَّكَ آخرُ أحبتي، وأوجعتني وكأنَّي أكبرُ أعدائِكَ)، زوجي العزيزِ: مزقِ الورقةَ لئلا تقرأَها ابنتُنا (آمنة) يوماً ما، وأجلبْ لها ما تمنْتُهُ (مائدةُ طعامٍ وسريرُ نومٍ).
أمل الياسري/ العراق


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

متهم بلا شهود بقلم الشاعر عثمان كاظم لفته

  ســيدي القـــاضـــي جلبوني اليكَ بلا احلام اليوم وغداً والماضي وهاأنذا بين يديكَ بلا احلام…  اذاً أنتَ ســـتــُقاضــي شخصا إفتراضــي وأنا ...