الأحد، 3 ديسمبر 2017

قصة قصيرة بقلم /محمد على عاشور

قصة قصيرة بقلم /محمد على عاشور
مـنذ خمســـة وعشــــرين عــــاماَ
لبس أجمل ما عنده وخرج يقابل محبوبته بعد ما حلق ذقنه ، وأفرغ نصف زجاجة العطر – التي لم يستعملها منذ زمن غير قريب – على ملابسه وخرج يحلم بلقاء حبه القديم الذي لم يكن يتخيل – في يوم من الأيام – أن يراه فقد أنساه الزمان إياه منذ خمسة وعشرون عاما مرت على فراقها ، فقد تزوجت بعد أن أنهت دراستها بشاب جاهز – برضاها أم رغم عنها .. لا فرق !! وقتها أسودت الدنيا في وجهه ، لكنه بعد عدة أشهر أقدم هو أيضا على الزواج ، وبرغم ذلك ظل يتتبع أخبارها وشيئا فشيئا أقلع عن ذلك ثم بدأ ينساها .
أمس تقابلا في " المترو " كانت جالسة في وجهه وهو واقف يتصفح جريدة وتلاقت عيناه بعينيها مدة طويلة ، وخارت قواه وكل منهما يرمق الآخر . 
" أمعقول بعد هذا العمر ألقاها ؟! هل أتحدث إليها ؟ ، هل تريد أن تصافحني مثلما أريد ؟، هل بقي لي شيء من أيام الزمن الماضي عندها ؟ " أسئلة كثيرة تهرول في جنبات عقله وهو مطرق يفكر في إجابة عليها. زادت ضربات قلبه ، وأحس أن روحه تسلب منه وتعود إليه ثم تسلب منه وتعود إليه، والدنيا تميد به حتى كاد أن تصيبه غيبوبة وهي تنطق باسمه وقد ارتسمت ابتسامة شفافة تحتوي وجهها ، أحس انه يسمع ضربات قلبه وهو يتقدم نحوها ، وقدماه لا تقويان على حمله وقد دارت به خيالات كثيرة وهبطت عليه فيها ذكريات الزمن الجميل الذي طالما افتقده وحن إليه . 
أحس الرعشة بيدها التي أطبق عليها بكلتا يديه وهو يصافحها وقد ازداد وجهها احمرارا وغلف صوتها برعشة ألهبته شوقا . 
جلسا يتحدثان في كثير من السعادة كأن كليهما وجد ضالته ، حتى نسيا محطتيهما ثم عادا في نفس المترو إلى مكان نزول كل منهما،وقد طلب منها أن يقابلها في مكانهما القديم في حديقتهما أسفل شجرة الكافور ، لكنها أخبرته انها لم تعد تستطيع ، فأنبأها وهو يشد على يديها أنه سيذهب وينتظرها غدا في الحديقة ، حتى لو لم تأت فسيذهب بمفرده لأنه اشتاق لمكانهما القديم ، وأنه يرجوها أن تذهب.
دخل الحديقة وهو يحلم بها أحلامه القديمة ، أخذ يتلفت يمينا ويساراً ، لقد تغيرت الحديقة كثيراً ، إنه لم يدخلها منذ خمسة وعشرين عاما مضت لكنه ، لم يجل بخاطره أن يصبها هذا التغيير في طرقاتها وأشكال الأشجار وأنواعها ، والمقاعد والبنايات الحديثة ، حتى الناس ليسوا كما كان يراهم قديماً . 
بحث عن شجرة الكافور حتى وجدها ، وقف يتطلع إليها ، " ياه " ... لقد شاخت وتضخمت كثيرا كأنها عجوز ترهل بدنها ، إنه لا يستطيع أن يحتضنها مشبكا أصابعه ببعضها كما كان يفعل قديما ، اقترب منها يبحث عن القلب الذي حفره في يوم من الأيام على جذعها ، وكتب أول حرف من اسمه واسمها باللغة الانجليزية في بداية ونهاية سهم يخترق هذا القلب .
دار حول الشجرة وهو يدقق النظر حتى وجده ، تلمسه بأصابعه وهو حزين ، لقد تشوه القلب ولم يبقى منه إلا أثار . 
جلس يرقب زوار الحديقة من بعيد واضعاً ساقاً فوق الأخرى وأسند رأسه على الشجرة ، وبين الفينة والأخرى يرمق ساعته ، إن الوقت يمر رتيباً ، " إنها لن تأتي كما أخبرته " هكذا أخذ يحدث نفسه وهو ينظر في ساعته ، لقد بدأ الملل يحتويه ، لقد كانت دائماً تأتي قبله أما الآن فقد تركته متعللة بالظروف. 
قام ليلقى نظرة الوداع الأخيرة على المكان ، نظر إلى الشجرة وإلى القلب المشوه ، تلمسه بأصابعه للمرة الأخيرة وقبله لينصرف . 
التفت ليذهب ، أذهلته المفاجأة ، واحمر وجهه من السعادة ، إنها تقف خلفه ترقبه وتنظر إلى بقايا القلب ، وعلى وجهها أطلت ابتسامة لم يرى أجمل منها ، نظر إليها في شوق وهو يتطلع إليها تطلع الغريق إلى منقذه ثم جلسا سوياً على الأريكة القديمة أسفل الشجرة ، لاحت على وجهه ابتسامة أخذت تتوارى وهو يتفحصها ويعتب عليها وهي صامته تتفرس في وجهه.
ظل ينظر فيها وجهها في اشتياق .. ما هذا؟ ، إنه لم يرها تضع هذا الكم من المساحيق عندما كانت صغيرة ، هل حاولت أن تخفي عبث السنين ؟ ، .. ولم لا .. لقد حاولت أنا أيضا.. هكذا قال في نفسه .
إنه يريد أن يتكلم معها كثيرا لكنه لا يعرف ماذا يقول ؟ ومن أين يبدأ ؟ كأن لسانه قد خرس أو غير موجود في مكانه . 
تذكر أيام الزمن الماضي عندما كان يثرثر كثيرا فيضحكها ، ويحكي لها الحكايات فيدهشها ، كثيراً ما كان يطلب منها أن تغني، فتطربه وتشجيه . 
ذكرها بالأيام الماضية وحبهما وهي صامته تستمع إليه ، لقد أضاع الزمان حلو حديثه وخفة ظله ، لكنها ابتسمت ابتسامة فاترة لا تعبر عن شئ . 
وجدته يمسك يدها ، نظرت في عينيه دون حراك ، إنها ليست نفس اليد التي طالما أمسكتها وضمتها إلى صدرها ، لقد تغير ملمسها وأصابها شيء من التجاعيد ، وجدته يضغط يديها ويتحسسها بأنامله كأنما يبحث عن شيء فيها فتركته غير مبالية. 
عندما أمسك يديها ، وجدها باردة ، إنها نفس اليد التي طالما أمسكها وضمها إلى شفتيه وأمطرها بالقبلات ، لكنها اليوم وقد فترت منها حرارة الشوق ، ولهيب الحب هجرها ، وعبثت بها الأيام لم يستطع أن يرفعها إلى شفتيه ليقبلها . انتهى الكلام عن الذكريات، وتوقفت أنفاس الحديث، وشرد كل منهما في ناحية يتطلع إلى اللا شيء ، وغلف المكان بالصمت . 
أحس بها تسحب يديها من يديه وتستأذنه في الانصراف قام ليودعها ويشيعها بنظراته ثم جلس يتذكر حبيبته التي فارقته منذ خمسة وعشرين عاماً .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

متهم بلا شهود بقلم الشاعر عثمان كاظم لفته

  ســيدي القـــاضـــي جلبوني اليكَ بلا احلام اليوم وغداً والماضي وهاأنذا بين يديكَ بلا احلام…  اذاً أنتَ ســـتــُقاضــي شخصا إفتراضــي وأنا ...