الف مبروك Samir Abbes
عن مقال " السنن اللوني في قصيدة الرمادي لمحمود درويش "
Samir Abbes
السنن اللوني في قصيدة الرمادي لمحمود درويش
سمير عباس
طالب دكتوراه في الأدب العربي الحديث
جامعة باجي مختار عنابة
1) تعريف السنن:
يشير رومان ياكبسون ( Roman Jakobson) إلى أهلية نموذجه اللساني التواصلي لدراسة أنساق أخرى غير النسق اللساني قائلا: « إن مسألة حضور و تراتبية تلك الوظائف الأساسية التي نلاحظها في اللغة - مثل التركيز على المرجع، و الشفرة، و المرسل، و المرسل إليه، و اتصالهما، أو أخيرا التركيز على الرسالة نفسها- يجب أن تطبقا أيضا على الأنظمة السيميائية الأخرى»(1)، و يحظى مصطلح الشفرة الذي نقل إلى اللغة العربية -عن المصطلح الغربي Le code - أيضا بمصطلح السَنَن، بأهمية خاصة في الدرس السيميائي، و يعرف السنن ( الشفرة) على أنه: « نسق إشارات( أو علامات، أو رموز) ، موجه بوساطة تواضع قبلي لتمثيل و نقل المعلومة بين مصدر( باث) الإشارات و وجهتها( متلق)»(2)، بحيث إن:« في إطار سيرورة التواصل، يمثل السنن نظام تحويل لشكل رسالة ما إلى شكل آخر يسمح بتداولها، مثلا فالكتابة هي سنن يسمح بتحويل رسالة مسموعة إلى رسالة خطية، كما إن إشارات مورس هي سنن يسمح بتحويل رسالة خطية إلى رسالة من شكل ميكانيكي، و تمثل عملية تحويل الرسالة إلى شكلها الجديد المسنَن بالتسنين Codage ou encodage ، الذي يتم على مستوى الباث المسنِن»(3)، و من التعريف السابق يبدو إن للسنن ثلاثة جوانب محورية في تشكله، هي الجانب النسقي و الجانب الاصطلاحي التواضعي و الجانب القبلي، فالسنن في واقع الأمر ليس نسقا من العلامات فحسب، وهذا ما يميزه عن النسق، بل هو فوق ذلك نسق تحظى علاماته بالتواضع على مدلولات أو مواضيع لها بعينها دون غيرها، إذ يعمل التواضع هنا على اصطفاء مدلولات معينة دون غيرها من المدلولات التي تمكن الإحالة إليها، و هذا يمثل طابعه الجمعي في مقابل الطابع الفردي للتسنين المقتصر على الباث، و في الحالة التي يكون الباث شخصا معينا، وليس جهاز راديو مثلا يبث تسجيلا صوتيا لخرير المياه في نهر، يتضح أن للتسنين طابعا شخصيا، ربما أوضح الجانب القبلي للسنن، إذ إن الإلمام أو المعرفة بتفاصيل التواضع السنني هو شرط ضروري و قبلي على عملية التسنين الشخصية التي يقوم بها الباث، و التي تسمح مقاربتها في حدود معينةباكتشاف السنن المشكل للرسالة المسَنَنة، و التي يدعوها كثير من السيميائيين و النقاد بفك الشفرة Décodage ، و بشكل عام أقول إنه يمكن انطلاقا من نسق معين من العلامات الحصول على أسْنُنَ مختلفة، بوساطة أنساق مختلفة من التواضعات، فكما يسمح نسق معين من التواضعات بالحصول على سنن معين انطلاقا من نسق معين من العلامات، فكذلك يسمح نسق آخر من التواضعات بالحصول على سنن مغاير انطلاقا من نسق العلامات عينه، و هذا يوضح خصوبة أنساق العلامات بإمكانيات إعطاء أسنن مختلفة تسمح بالتواصل.
2) النص و السنن:
تعدّ اللغة الطبيعية نسقا من العلامات ، غير إن هذه الطبيعة النسقية لها تعرف نوعا من التطور:« فالسنن في حالة اللسان يعرف اتساعا نتيجة التثبيت الاجتماعي، و يتعلق الأمر بمعدل الاستعمال، فبمجرد ما يستقيم هذا السنن، يتحتم على كل الذوات المتكلمة استعمال نفس العلامات للإحالة على نفس المفاهيم، و التأليف بينها وفق نفس القواعد»(4)، فاللغة المتداولة تأخذ طابع السننية مقابل اللغة ككل التي لا تزال تحتفظ في قسم منها بطبيعة نسقية مجهولة نسبيا، و ربما عاد هذا الأمر لظروف تطور اللغة و تداولها عبر التاريخ، حيث لا تحظى كثير من مفردات اللغة و تراكيبها التي تحتضنها الكتب و معاجم اللغة بالقدر ذاته من من السننية التي تحظى بها اللغة المتداولة مفردات و تراكيب، بعدّ السننية مصطلحا يعني إحالة علامات النسق وفق ما يقتضيه التواضع الجمعي، و في السياق ذاته: « يمكن أن تؤخذ العلاقة بين النموذج اللفظي و الأنماط الأخرى من العلامات كمبدأ أساسي لتصنيفها، و هناك نوع واحد من الأنظمة السيميائية يتألف من بدائل متنوعة للغة المحكية، و هذا النوع هو الكتابة التي هي من حيث التطور الفردي و النوعي - مكتسب ثانوي واختياري مقارنة بالكلام الشفهي الإنساني...»(5)،حيث يحظى النص كونه كتابة بالقدر الأكبر من الاختيارية مقابل الكلام الشفهي المتداول المسنن، و هذا يوضح ربما الطبيعة الشخصية للنص عموما و للنص الأدبي بوجه خاص، بعدّه تسنينا لغويا خطيا، في حاجة إلى مقاربة و تأويل لتجاوز نسقيته الغامضة إلى سننية واضحة، و يقول رولاند بارث Roland Barthes الذي يميز اعتمادا على يالمسلاف Hjelmslev بين مستوى للنص تقريري و بين مستوى آخر إيحائي: « من وجهة نظر سميولوجية، كل إيحاء هو نقطة بدء لسنن ما»(6)، حيث: « تنبثق الدلالة الأدبية عندما تتجاوز اللغة النسق الأول، أي اللغة التقريرية، و تصدر عن الإوالية الإيحائية، باعتبارها إنتاجا لمعان جديدة، غير المعاني الأولى التي يقررها النسق الأول( اللسان)»(7)، و بفهم النسق على أنه مجموعة من العناصر التي تتبادل فيما بينها علاقات معينة، فإن ورود مفردة ( زيتونة) مثلا في نص معين، يفيد في مستواه التقريري الدلالة نوع معروف من الشجر له ميزات خاصة و ينمو في مناطق معينة، غير إنه قد يفيد أيضا في مستوى آخر إيحائي الدلالة على سنن كامل من أسماء الشجر على اختلاف أنواعها من نخل و رمان و برتقال و غيرها من أنواع الشجر المعروفة لدى مبدع النص و متلقيه على السواء، و ربما أيضا الدلالة على سنن من أسماء المناطق الجغرافية التي ينمو فيها الزيتون، أو الدلالة على سنن من القصائد الشعرية المعروفة التي تتغنى بالزيتون، و يبدو لي أن التمييز بين المستويين التقريري و الإيحائي في اللغة المكتوبة ، أي النص، ذو أهمية واضحة في دراسة و تحليل النصوص الأدبية، و إشارة رولاند بارث السابقة في اعتقادي هي قيمة ، لتوضيحها بشكل ما إن المستوى الإيحائي للنص، هو المستوى الذي تبحث فيه الدراسة السيميائية عن تجليات عالم النص في شقيه النفسي الداخلي أو الخارجي الاجتماعي الثقافي، هذه التجليات التي قد تأخذ شكل أسنن من أنواع شتى تزخر بها الحياة الإنسانية و تنفعل بها على المستويين الفردي و الجمعي، و في هذا السياق يقول سعيد بنكراد:« يتحدد السنن في مقاربة أولى و عامة بصفته تكثيفا للممارسة الإنسانية بكل أبعادها و مستوياتها، سواء تعلق الأمر بالسلوك العملي و طقوسه المتنوعة، أم تعلق بالممارسة الذهنية ، أي المجال الخاص بالحكم على الأشياء و الأفعال»(8).
3) نسقية الألوان و سننيتها:
يسمح نسق الألوان بتوضيح مصطلح النسقية الذي أقترحه، و الذي أعني به مجموع العلاقات المتبادلة بين عناصر النسق، و الذي قد يزداد أو ينقص أو يستقر في الوعي الفردي أو الجمعي، بحيث ينشأ عن زيادته نسقية متطورة أو عالية، كما ينشأ عن نقصانه نسقية متراجعة، بينما استقراره في الحجم نسقية مستقرة، و قد تكون ظاهرة الترادف في مفردات اللغة من هذا المنظور ناتجة عن نسقية متراجعة، حيث تغيب عن الوعي الفردي و الجمعي حالة التمييز بين هذه المفردات التي كانت تسمح بها النسقية السابقة الأعلى للغة من النسقية الراهنة، بغياب الوعي بالعلاقات المميزة لهذه الفردات واحدتها عن الأخرى، و نتيجة هذا الغياب تجعل هذه المفردات تحيل على مدلول واحد مشترك فيما بينها، أما النسقية المتطورة فيمكن ملاحظتها في المعالجة الآلية لطيف الألوان، التي سمحت بالتمييز بين درجات متنوعة مختلفة و كثيرة في نسق الألوان، و هذا أكثر مما كان متاحا من قبل تسخير هذه المعالجة الآلية، و ربما سمح تطور هذه النسقية اللونية في الحصول على أسنن لونية أكثر ثراء و اتساعا، فمثلا في المعالجة الآلية للصور الفوتوغرافية أصبح ممكنا أكثر من السابق الحصول على ألوان أكثر محاكاة للألوان الحقيقية كما هي في الواقع، و يمكن ملاحظة سنن لوني أكثر وضوحا في الحياة البشرية على الرغم من نسقيته البسيطة نسبيا، إذ يتشكل من نسق لوني ثنائي هو ( داكن / فاتح) ، إذ تحيل الألوان الفاتحة الزاهية على مدلولات إيجابية كالانفتاح و الوضوح و البهجة و الأمل و التفاؤل، بينما تحيل الألوان الداكنة على مدلولات سلبية كالانغلاق و الغموض و الحزن و الإحباط و التشاؤم، حيث:« يمكننا تفسير الألوان الفاقعة أو الفاترة، المشبعة أو غير المشبعة، بأنها تغيرات في الشدة الضوئية الخاصة بالمواقع، هذه التغيرات تولد الألوان من جهة، و تولد القيم - بالمعنى التصويري Pictural للكلمة- من جهة أخرى»(9)، كما يمكن ملاحظة سنن لوني آخر في نظام المرور، حيث إن:« النسق الذي يقابل بين الأحمر و الأخضر، و ذاك الذي يقابل بين المرور و عدم المرور ، و سيبدو أن هذين النسقين مستقلان عن بعضهما البعض، و مع ذلك، هناك سنن وظيفته هي الربط ، دلاليا، بين قيم النسق الأول و قيم النسق الثاني، بحيث يمكن ل:/ حضور القرص الأحمر/ أن يدل على “لا مرور”»(10)، إضافة إلى ذلك يحضر السنن اللوني في نظام الموضة:« يتحول الجسد من خلال الحجاب المعمم إلى “كهف مظلم”( أفلاطون)، و لا يمكن تخليص الروح منه إلا من خلال إلغاء حضوره كشكل مميز داخل الفضاء العمومي، و ليس غريبا أن يمتد الإلغاء إلى لون الحجاب ذاته، فلا يمكن تصور حجاب أصفر أو أحمر أو متعدد الألوان، فتلك ألوان خاصة بالفرح و الحماسة و الاندفاع، إنها مشحونة بانفعالات تتناقض مع صورة الحياد التي يجب أن يكون عليها الحضور النسائي في عين الرائي...»(11).
4) عنوان القصيدة و سيميائيته:
حضر اللون في النصوص الأدبية العربية و لا سيما الشعرية منها، بدءا من المستوى الأول التقريري لهذه النصوص، لتظهر امتداداته الدلالية في مستوياتها الإيحائية:« إذ يعدّ اللون بتمظهراته المختلفة و قيمه المتنوعة أحد أهم آليات فن الرسم، و أفاد منه الشعر- و لا سيما الحديث منه- فائدة تجاوزت حدود الوصف، منتقلة على تفجير طاقات البعد السيميائي فيها و توظيفها على نحو بالغ التميز في التشكيل الشعري»(12)، و قد جاء اللون الرمادي في شعر الفلسطيني الراحل محمود درويش عنوانا لقصيدة:« الرمادي»(13) من مجموعته الشعرية التي صدرت عام 1973 و الموسومة « محاولة رقم 7»، و هذه القصيدة التي تضم قرابة اثنين و تسعين (92) سطرا شعريا من الشعر الحر، يمكن تقسيمها إلى ثلاثة مقاطع رئيسة بحسب إحالاتها المضمونية التي تلقيتها، و ورود لفظة الرمادي معرفة نحويا بالألف و اللام ربما قاد التفكير لوهلة أولى إلى اسم اللون المذكور، و هذا في غياب لفظة تكون موصوفا لصفة الرمادي، و هذا اللون الداكن قد يحيل سيميائيا إلى السنن اللوني المذكور آنفا، و الذي ينطلق من النسق الثنائي داكن/ فاتح، للإحالة إلى ثنائية المدلولات ( تحفظ و غموض و حزن و تشاؤم/ انفتاح و وضوح و ابتهاج و تفاؤل)، و فهم العنوان بوساطة هذه الإحالة السننية يلقي بظلال ثقيلة مسبقا على مضامين القصيدة ككل، و أجد في قصيدة:« لا تدفنيني هنا»(14) للشاعر الفلسطيني المقاوم عز الدين المناصرة صورة شعرية توظف هذه الإحالة السننية عينها:« و لعل إشارته إلى السماء تمت من خلال صورة:( باب السماء الرمادي) ، حيث إن زمكان المساء هو بمثابة الباب الذي تخرج عبره الشمس من صفحة السماء الظاهرة باتجاه الغروب، و كونه رماديا ربما يرجع إلى الغيوم التي تحجب خلفها الشمس فيستحيل لون السماء رماديا داكنا»(15)، و لا أظنه يخفى على أحد ذلك التحويل من القيم الإيجابية إلى القيم السلبية للون السماء الأزرق الفاتح عادة لدى استبداله باللون الرمادي في هذه الصورة، و بالعودة إلى قصيدة محمود درويش يتبادر إلى الذهن حشد من الإحالات السيميائية إلى قيم سلبية غير ظاهرة في هذه المرحلة من القراءة، و لكنها تجد لها مجالا للاعتمال في الذهن انطلاقا من اندراج اللون الرمادي ضمن السنن اللوني داكن/ فاتح و مدلولاته المترتبة، و من هذه النقطة يتضح دور مهم يلعبه السنن ضمن الدراسة السيميائية للدوال اللغوية، بعدّه مبحثا محوريا من مباحث السيميائيات العامة، و هذا كما اتضح من القراءة السننية لعنوان القصيدة: « فالعنوان حامل معنى و حمال وجوه، مواز دلالي للنص، و عتبة قرائية مقابلة له، توجه المتلقي نحو فحوى الرسالة و مضمونها، و هو حامل معنى من حيث كونه يوجه إلى مقصد بذاته أو يلمح للمحتوى، ثم إن المادة اللغوية التي تشكل منها تكوّن لدى المتلقي فروضا استكشافية، بناء على ما تثير لديه من تخمينات و حدوس»(16)،و لهذا يقترح العنوان سيميائيا من وجهة نظري مجموعة من القيم السلبية المصاحبة لمدلولات اللون الداكن الذي يمثل الحضور في مقابل الغياب الذي يحيل على قيم إيجابية وفق السنن اللوني و عنصره الغائب اللون الفاتح، هذه القيم السلبية و الإيجابية التي تجد لها امتدادات نفسية و اجتماعية و حضارية، يبقى النص هو المنطلق المعول عليه في التثبت من التخمينات و الفروض الحدسية التي اقترحها العنوان بخصوصها.
5) السنن اللوني في قصيدة الرمادي:
تبتعد القصيدة العربية الحرة ( نسبة للشعر الحر) عن المباشرة في القول، معتمدة على الإيحاء في تعبيرها، و هكذا هو الشعر في جوهره كما أفهمه إشارات لطيفة ترسم أبواب الدخول إلى عوالم القصيدة، و يفتتح الشاعر قصيدته بقوله: (17)
الرمادي اعتراف، و السماء الآن ترتد عن الشارع
و البحر، و لا تدخل في شيء، و لا تخرج من
شيء... و لا تعترفين.
و وفقا لمدلولات السنن اللوني المذكور سابقا، تكتسي لفظة ( الاعتراف) طابعا سلبيا لارتباطها بالرمادي اللون الداكن ، و هذا الطابع السلبي يأخذ في راهن القصيدة المعبر عنه بلفظ ( الآن) ، يأخذ في التزايد بارتداد السماء أي لونها الفاتح لون الوضوح و الأمل عن الشارع أفق الجماهير و قناعاتها، و عن البحر و آفاقه البعيدة ، لتترك المجال مفتوحا لتوسع الرمادي و دلالاته السلبية من غموض و تحفظ و حزن ، و لا يتوقف الرمادي عن التوسع عبر عالم الحياة و الأشياء إلا عند مجال ضيق لا ينتمي له، و إنما ينتمي لها ، تلك التي لا تعترف ( لا تعترفين)، مشكّلة الاستثناء الضيق للخروج من دلالات الرمادي السلبية، و التمسك من جهة أخرى بإيجابية مدلولات الشق الثاني من السنن اللوني داكن/ فاتح، من انفتاح و أمل و وضوح، و هذه المنطقة الضيقة الاستثنائية تشكل بؤرة مقاومة في وجه المد الرمادي السلبي، و من هذا المنطلق تصبح هذه المقاومة أكثر إيجابية كلما استمر وجودها على قلة و ضيق مجاله، و ربما أمكن من هنا ملاحظة جانب من جوانب فهم الشاعر لمنطق المقاومة ينعكس في التعبير الشعري و يتبدى للقراءة المتأنية، و لا يتوقف الشاعر عند هذا الحد من الإيحاء، ليواصل مد الجسور إلى عالم قصيدته:( 18)
و الرمادي اعتراف، من رآني قد رأى وجهك وردا
في الرماد .
من رآني أخرج الخنجر من أضلاعه، أو خبأ الخنجر
في أضلاعه.
حيث تكونين دمي يمطر، أو يصعد في أي اتجاه
كالنباتات البدائية.
يتماهى الشاعر مع مجال المقاومة الضيق الذي يمثل جانبه المشرق ( وردا) الواضح الإيجابي، و لكنه يظل مع هذا جانبا كامنا يتمخض عنه جانب واقعي فعلي محترق( الرماد) هو ضحية الرمادي، و لكنه جانب لا ينتمي للرمادي،فحياة الشاعر عرضة للتفاعل مع صنفين فقط من الناس، أحدهما يظهر له العداوة ( الخنجر)، و آخر يضمر له العداوة، و لهذا يكون الشاعر ضحية للآخر في كل أحواله لأنه متمسك دوما بمجال المقاومة ( هي)، الذي يتبدى لي عند هذه النقطة من التحليل مشكّلا لمفهوم الهوية، فالهوية الفلسطينية جانب الشاعر المشرق الواضح يعاني هيمنة الفكر الصهيوني المحتل للأرض الفلسطينية بوسائل هائلة القوة و النفوذ في مراكز اتخاذ القرار الدولية، محاولا قمع الهوية الفلسطينية و محاصرة مظاهرها و تجلياتها بغرض استئصالها و محوها و تثبيت هوية بديلة لها هي اليهودية الصهيونية، و لهذا ربما أمكن فهم سلبية لفظة ( الاعتراف) بنسبتها للرمادي ، بكون الاعتراف يعني اعترافا بالكيان الصهيوني و ممارساته الاحتلالية ضد الفلسطينيين، و سياساته الدولية للتمكين له عبر أقطار العالم، و أمام هذا المد الصهيوني الغاشم الطاغي تقف الهوية الفلسطينية ممثلة في أبناء فلسطين المخلصين صامدة مقاومة ترفض الاستسلام و المساومة على قلة بساطة نفوذها العالمي و بساطة وسائلها و مواردها المادية.
و بالعودة إلى السنن اللوني داكن/ فاتح و مدلولاته السلبية و الإيجابية على الترتيب، أفهم من التعبير الشعري هنا أن الاعتراف بالكيان الصهيوني هو فكر يفتقر للوضوح و الجلاء، لأنه مبني على أطروحات غامضة غير مبررة، و بالتالي فهو فكر غير عادل، و الافتقار إلى العدالة هو منشأ كل بؤس و حزن و أسى في الحياة، لأنه يقف حجر عثرة أمام تحقيق الآمال و الطموحات المشروعة مشكّلا بيئة من الإحباط و التشاؤم و السوداوية، و هذا ما ترفضه المقاومة الفلسطينية القائمة على مبدأ رسوخ الهوية و حقوقها المشروعة في الحياة الكريمة على أرضها، و لكن الشاعر أشار إلى هذا الكيان السلبي دون أن يسميه:« إذ يقف محمود درويش على رأس هؤلاء الشعراء، فقد أظهر خطابه الشعري نماذج عدة لصورة الآخر اليهودي، دون أن يسميه مباشرة، في أغلب قصائده كثيرة العدد التي صور فيها الآخر الصهيوني تصويرا ملازما للمنتوج الشعري ذاته، و طرفا ملازما لحضور الأنا، و لكن هذا التصوير جرى بطريقة غير مباشرة»(19)، و ربما يعود هذا إلى وعي الشاعر بطبيعة الشعر الإيحائية القادرة على قول ما تريد قوله، من خلال الإشارة التعبيرية الفطنة، و هذا يمكن التوصل إليه بقراءة القصيدة و أيضا بالاستعانة ببعض القرائن السياقية البسيطة كتاريخ صدور المجموعة الشعرية في فترة عرفت قوة و نفوذا عالميا عرفه الفكر الصهيوني، كما إن التوزيع الفطن للشاعر على طرفي ثنائية سننية واضحة التناقض للهوية الفلسطينية من جهة، و للاعتراف بالكيان الصهيوني من جهة أخرى، هذا التوزيع يوحي بقوة إلى مدى التعارض و قوة المواجهة بين الطرفين المتصارعين، على الرغم من رجحان ميزان القوى المادية لصالح الكيان الصهيوني، و ما ينتج عنه من أعباء ثقيلة تقع على عاتق المقاومة الفلسطينية الصامدة.
6) الهوية رهينة القمع:
يسترسل الشاعر في وصف المد الصهيوني الغاشم و تزايد قوته ملقيا مزيدا من الأعباء على عاتق المقاومة الفلسطينية ، و هذا من خلال إيحاءات تعبيرية تحفظ له صفته اللونية الرمادية:(20)
الرمادي اعتراف و شبابيك، نساء و صعاليك
و الرمادي هو البحر الذي دخن حلمي زبدا
و الرمادي هو الشعر الذي أجّر جرحي بلدا .
يصنف الشاعر هنا أصنافا ثلاثة من أشكال المد الصهيوني عبر العالم المعاصر، فهو يرمز ( بالصعاليك) للقوى العالمية المتآمرة مع الصهاينة لأجل مصالح مادية على حساب القضية الفلسطينية، فهي قوى تعترف بإسرائيل طمعا فيما قد يدره هذا الاعتراف عليها من مصالح اقتصادية، لا سيما و أن اليهود معروفون بهيمنتهم الاقتصادية غير المباشرة في العالم، أما الصنف الثاني فيرمز لهم ( بالبحر)، و هي القوى العالمية التي لا تبدي اهتماما فعليا بحقوق الشعب الفلسطيني في استعادة أرضه، و لا تسعى من خلال تدابير فعلية لتمكينه من نيل هذه الحقوق، و هذا على الرغم من تشدقها في المحافل الدولية بحقوق الشعوب في تقرير مصائرها، و بحقوق الإنسان و ضرورة حفظها، أما الصنف الثالث الذي يشير إليه الشاعر فهم أصحاب اللغة السياسية المهادنة للفكر الصهيوني من المحسوبين على العالم الإسلامي الذي يفترض أن يكون نصيرا للفلسطينيين، و من خلال هذا التعداد للجهات التي تخدم الفكر الصهيوني بشكل مباشر أو غير مباشر على حساب الفلسطينيين ، يتجلى للأذهان حجم الضغط المسلط على القضية الفلسطينية كما يتجلى مقدار ضيق مجال المقاومة الفلسطينية الذي أشار له الشاعر في مستهل قصيدته، إضافة إلى مدى إحساس الذات الشاعرة التي تتماهى مع قضية وطنها بهذا الضغط القاسي، حيث إن:« الفكر الصهيوني سوف يظل يدور في حلقة مفرغة: اليهودي المتفوق أخلاقيا، يقتلع شعبا من جذوره بالمذابح و الإرهاب و التعذيب و يجب ألا يثير هذا أي احتجاج عالمي»(21)، و لهذا أجد أن التعبير الشعري يوافق لسان حال الشاعر:(22)
كان لي سورة “اقرأ”و قرأت...
كان لي بذرة قمح في يد محترقة
و احترقت.
فتمسك الفلسطيني بمعتقداته و بهويته و بأرضه أمام طغيان المحتل لم يمر دون دفع ثمن، بل لقد كان الثمن باهظا، إذ تعرض لشتى أنواع القهر و الظلم، في جانبيه الفردي و الجمعي على السواء، و قد ناضل في سبيل التمسك بهويته على الرغم من تواصل العدوان الصهيوني عليه، و لئن كان عدوان الصهاينة سافرا على مرأى المجتمع الدولي، في شكل تعالي قوة عالمية على شعب أعزل، فإن نضال الفلسطينيين أيضا استمر واضحا جليا دون مواربة على الرغم من ضآلة إمكانياته المادية و ضآلة الدعم الدولي له، و على الرغم كذلك من جسامة التضحيات التي قدمها الفلسطينيون ، و لهذا أجد أن الثنائية المتصارعة ( كيان صهيوني/ مقاومة فلسطينية) تأخذ طابعا من الثبات قد يضاهي ثبات السنن بشكل عام و السنن اللوني داكن/ فاتح بوجه خاص، بمدلولاته السلبية و الإيجابية على الترتيب، بحيث يمكنني القول إن القصيدة تتمتع ببنية قوية على المستوى الإيحائي ، بحسب ما تتيحه القراءة انطلاقا من الشكل التعبيري، و هذا ما يدعم فرضيتي الحدسية بتوسيط السنن اللوني في قراءة القصيدة.
7) الهوية مبدءا للمقاومة:
يرفض محمود درويش الثبات الظاهر في الثنائية ( كيان صهيوني/ مقاومة فلسطينية) ، و لهذا فهو يبدي تمسكا قويا بالهوية الفلسطينية أملا في تغيير الواقع المعيش تغييرا إيجابيا:(23)
كوني حائطي أو زمني
كي أطأ الأفق الرمادي
و كي أجرح لون المرحلة
من رآنا ضاع منا
في ثياب القتلة
فاذهبي في المرحلة
إذهبي
و انفجرِِي بالمرحلة .
يعدّ الشاعر استمرارية النضال زمنا للهوية و لحياتها و لامتدادها الحضاري، و هي- أي الهوية- في اعتباره مستند لهذا النضال، و متكأ له يمتلك الشرعية و البداهة، اللتان تمكنانه من مد جذوره و فروعه أكثر فأكثر، و يعد الشاعر هذه الاستمرارية في نضال المقاومة الفلسطينية و سيلته الوحيدة للوقوف في وجه الطغيان الصهيوني، خاصة و أن المجتمع الدولي الذي يرى مقاومة الفلسطيني، هذا المجتمع ( يضيع في ثياب القاتل) الصهيوني بانضوائه تحت لوائه و لو بشكل مراوغ غير مباشر، ليترك المقاومة الفلسطينية وحيدة في مواجهتها المصيرية، و لهذا كله يعتد الشاعر بهذه المقاومة الفذة من خلال التعبير الشعري الذي يستنجد بالهوية ( أنتِ)، و يعدها سبيل تغيير المرحلة التاريخية راهن القصيدة، تغييرا جذريا ينهي امتدادات المدلولات السلبية للرمادي الصهيوني، لتشرق محلها مدلولات الهوية الفلسطينية الإيجابية من وضوح يرافقه بهجة و أمل، فالقصيدة من هذا المنطلق هي قصيدة شاعر مقاومة فلسطينية مبدع أصيل، تكون هوية ثانية له أو بطاقة هوية، و هو الذي:« مكنته تجربة السجن في الأرض المحتلة من شق الطريق السريع أمام التسمية التي التصقت به و بسميح القاسم و توفيق زياد و غيرهم من الشعراء الذين عرفوا منذ ستينيات القرن الفائت باسم شعراء المقاومة الفلسطينية»(24)، و لدى الانتهاء من تحليل القصيدة يبدو لي أنها تأخذ شكل بناء ذي وحدة موضوعية يتجلى في المستوى الإيحائي انطلاقا من قراءة القصيدة ، و ربما لا يتجلى هذا البناء المحكم للقراءة السطحية الأولى التي تلتمس المستوى التقريري للنص، فالشاعر يصف في مرحلة أولى ظاهرة الصراع الصهيوني الفلسطيني غير متوازن القوى في الطرفين، ليذهب في مرحلة ثانية إلى توضيح سلبية و مدى عدائية الجانب الأول الذي يتمتع بالقوة المادية، إضافة إلى توضيح مدى معاناة الجانب الثاني المضطهد الفلسطيني الذي يتسلح فقط بالقوة المعنوية الاعتقادية، أما المرحلة الثالثة الأخيرة، ففيها يقترح الشاعر وضعا بديلا لإحداث التوازن، من خلال التمسك بالهوية و ممارساتها النضالية المقاومة المشروعة، و في كل هذا توسل الشاعر بجمال الإشارة التعبيرية اللغوية و بلاغتها التي مكنت القارئ من الوصول إلى بنية من الانسجام المعنوي على المستوى الإيحائي، حيث إن:« منذ محاولة رقم 7( 1973)، تتجه تجربة محمود درويش نحو المزيد من الفرادة و التبلور حيث يتخفف الشاعر من وطأة الأصوات السابقة عليه، متجها أكثر فأكثر إلى امتلاك صوته الخاص، و محيلا قراءاته و مصادره المعرفية الوافدة إلى مجرد مواد خام يصهرها داخل أتون موهبته العالية لتصبح نتاجا درويشيا بامتياز»(25)، غير إن هذه القراءة لا تدعي الإلمام بكامل جوانب القصيدة، في ظل عصر نقدي يقول بتعددية التأويل.
8) خاتمة:
سمح التوسل بالسنن اللوني ذي النسق الثنائي ( داكن/ فاتح) ، و ذي المدلولات الموافقة على الترتيب لعنصريه: ( التحفظ و الغموض و الحزن و التشاؤم/ الوضوح و الابتهاج و الأمل و التفاؤل)، و الذي يمكن عده سننا نفسيا اجتماعيا حضاريا، لما تتمتع به هذه المدلولات من آفاق على هذه المستويات كلها، سمح التوسل بهذا السنن في مقاربة نص شعري حداثي لمحمود درويش شاعر المقاومة الفلسطينية بالوصول إلى فهم منسجم سمح إلى حد كبير بدوره بولوج عالم القصيدة و اكتناه بعض من مقولاتها المحورية، و تذوقا من ثمة لجمال التعبير الشعري لهذا الشاعر المبدع و للطافة إشاراته، و أيضا لعمق تجربته الشعرية، ما يجعل الباحث أكثر انفتاحا و تقبلا و اعتمادا على إجراءات السيميائيات، بما في ذلك التحليل السنني، لمقاربة النصوص الشعرية الحديثة الثرية في شكلها و بلاغة إيحائها، كما يجعل الباحث أيضا أكثر إقبالا على مقاربة نصوص التجربة الشعرية لمحمود درويش بوجه خاص، لما لمسه فيها من عمق و جمال كما سبق القول.
9) الهوامش:
1) رومان ياكبسون، الاتجاهات الأساسية في علم اللغة، ت: علي حاكم صالح و حسن ناظم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب / بيروت، لبنان، ط2، 2011، ص 57.
2) Jean Dubois et autres, Le dictionnaire de linguistique et des sciences du language, Larousse, Paris, France, 2012, p 90.
3) ibid .
4) أمبرتو إيكو، العلامة: تحليل المفهوم و تاريخه، ت: سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب/ بيروت، لبنان، ط2، 2010، ص118.
5) رومان ياكبسون، الاتجاهات الأساسية في علم اللغة، ت: علي حاكم صالح و حسن ناظم، ص 50.
6) Roland Barthes, S/Z, translated by: Richard Miller, Blackwell, United Kingdom, 2002, p9.
7) محمد بوعزة ، استراتيجية التأويل: من النصية إلى التفكيكية، دار الأمان، الرباط، المغرب/ منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة، الجزائر، ط1، 2011، ص 46.
8) سعيد بنكراد، النص السردي: نحو سيميائيات للأيديولوجيا، دار الأمان، الرباط، المغرب، ط1، 1996، ص14.
9) جاك فونتاني، سيمياء المرئي، ت: علي أسعد، دار الحوار، اللاذقية، سورية، ط1، 2003، ص43.
10) أمبرتو إيكو، العلامة: تحليل المفهوم و تاريخه، ت: سعيد بنكراد، ص 127.
11) سعيد بنكراد، وهج المعاني: سيميائيات الأنساق الثقافية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب/ بيروت، لبنان، ط1، 2013، ص 33.
12) فاتن عبد الجبار جواد، اللون لعبة سيميائية: بحث إجرائي في تشكيل المعنى الشعري، دار مجدلاوي، عمان، الأردن، ط1، 2010، ص27.
13) محمود درويش، ديوانه، دار العودة، بيروت، لبنان، ط1، 2010، مجلد 1، ص 536.
14) عز الدين المناصرة، الأعمال الشعرية الكاملة، منشورات البيت، الجزائر العاصمة، الجزائر، ط7، 2009، الجزء 2، ص 30.
15) سمير عباس، الزمكان في الشعر العربي المعاصر: بدر شاكر السياب/ عز الدين المناصرة، دار الصايل، عمان، الأردن، ط1، 2015، ص 121.
16) محمد بازي، العنوان في الثقافة العربية: التشكيل و مسالك التأويل، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان/ دار الأمان، الرباط، المغرب/ منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة، الجزائر، ط1، 2012، ص 19.
17) محمود درويش، ديوانه، دار العودة، مجلد 1، ص 536.
18) المصدر نفسه، مجلد نفسه، ص 537.
19) أحمد ياسين السليماني، التجليات الفنية لعلاقة الأنا بالآخر في الشعر العربي المعاصر، دار الزمان، دمشق، سوريا، ط1، 2009، ص 462.
20) محمود درويش، ديوانه، دار العودة، مجلد 1، ص 538.
21) غالب هلسا، نقد الأدب الصهيوني: دراسة أيديولوجية لأعمال الكاتب عاموس عوز مع الترجمة العربية الكاملة لروايته ( الحروب الصليبية)، دار الانتشار العربي، بيروت، لبنان، ط1، 2008، ص 62.
22) محمود درويش، ديوانه، دار العودة، مجلد 1، ص 539.
23) المصدر نفسه، مجلد نفسه، ص 541.
24) عبد الإله بلقزيز و آخرون، هكذا تكلم محمود درويش: دراسات في ذكرى رحيله، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط1، 2009، ص 112.
25) المرجع نفسه، ص 115.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق